{ 91 - 94 } { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }
أي : واذكر مريم ، عليها السلام ، مثنيا عليها مبينا لقدرها ، شاهرا لشرفها فقال : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : حفظته من الحرام وقربانه ، بل ومن الحلال ، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة ، واستغراق وقتها بالخدمة لربها .
وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } فجازاها الله من جنس عملها ، ورزقها ولدا من غير أب ، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام ، فحملت بإذن الله .
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } حيث حملت به ، ووضعته من دون مسيس أحد ، وحيث تكلم في المهد ، وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة ، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ما هو معلوم ، فكانت وابنها آية للعالمين ، يتحدث بها جيلا بعد جيل ، ويعتبر بها المعتبرون .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء الكرام ، بذكر جانب من قصة مريم وابنها عيسى فقال : { والتي أَحْصَنَتْ . . . } .
وقوله : { أَحْصَنَتْ } من الإحصان بمعنى المنع ، يقال : هذه درع حصينة أى : مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال : هذه امرأة حصينة ، أى : مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو زواجها .
أى : واذكر - أيضا أيها المخاطب خبر مريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها ، أى : حفظته ومنعته من النكاح منعا كليا . والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عن السوء .
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أى : فنفخنا فيها من جهة روحنا ، وهو جبريل - عليه السلام - حيث أمرناه بذلك فامتثل أمرنا ، فنفخ فى جيب درعها ، فكان بذلك عيسى ابنها ، ويؤيد هذا التفسير قوله - تعالى - فى سورة مريم : { قَالَ } - أى جبريل لمريم - { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } أى : لأكون سببا فى هبة الغلام لك عن طريق النفخ فى درعك فيصل هذا النفخ إلى الفرج فيكون الحمل بعيسى بإذن الله وإرادته .
والمراد بالآية فى قوله - سبحانه - : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } : الأمر الخارق للعادة ، الذى لم يسبقه ولم يأت بعده ما يشابهه .
أى : وجعلنا مريم وابنها عيسى آية بينة ، ومعجزة واضحة دالة على كمال قدرتنا للناس جميعا ، إذ جاءت مريم بعيسى دون أن يمسها بشر ، ودون أن تكون بغيا .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : هلا قيل آيتين كما قال - سبحانه - : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } قلت : لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة . وهى ولادتها إياه من غير فحل " .
هكذا قَرَن تعالى{[19848]} قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى ، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر . هكذا وقع في سورة " آل عمران " ، وفي سورة " مريم " ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وهذا كقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد عن شَبِيب{[19849]} - يعني ابن بشر{[19850]} - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس .
{ والتي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام يعني مريم . { فنفخنا فيها } أي في عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها ، وقيل فعلنا النفخ فيها . { من روحنا } من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام . { وجعلناها وابنها } أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : { آية للعالمين } فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى .
المعنى واذكر { التي أحصنت } وهي مريم بنت عمران أم عيسى ، و «الفرج » فيما قال الجمهور وهو ظاهر القرآن الجارحة المعروفة وفي إحصانها هو المدح ، وقالت فرقة الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك وهو ضعيف ، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من العلماء إنما نفخ في جيب درعها وأخاف الروح إضافة الملك إلى المالك ، { وابنها } هو عيسى ابن مريم عليه السلام ، وأراد تعالى أَنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها إلى آخرها { آية } لمن اعتبر ذلك ، و { للعالمين } يريد لمن عاصره فيما بعد ذلك .
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً ، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } الذي هو في حكم الصلة أيضاً ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] .
والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم .
والظرفية المفادة ب ( في ) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل { فيها } ولم يقل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .
والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ الحجر : 29 ] ، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً . وحَرف ( مِن ) تبعيضي ، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة .
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي .
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [ سورة المؤمنين : 50 ] { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها } [ الشمس : 12 ] .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .