ثم قال تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }
لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد ، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة ، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما ! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء ، فكمال العبد متوقف على الحكمة ، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به ، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر ، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره ، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك ، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق ، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه ، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة ، والعقول التامة ، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم ، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد ، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب ، فلهذا قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب }
ثم قال - تعالى - : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم .
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو وجه النظم " .
و { الْحِكْمَةَ } مشتقة من حكم بمعنى منع ، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس وحكمة لأنها تمنعه من الجموح . أو هي في الأصل مصدر من الإِحكام وهو الإِتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها .
والحكمة بالنسبة للإِنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق ، وتوجه الإِنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة .
وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل ، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به .
والمعنى : أن الله - تعالى - الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } لأن الإِنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع ، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه ، وإلى الإِيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر ، وبذل كيكون سعيداً في دنياه وأخراه .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد - أي لا غبطة - إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله - تعالى - الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإِنسان لأنه أنفع شيء فيه .
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ، ودوافع الشر ، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة .
أي : وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية ، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به ، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله ، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة ، وأن الإِنفاق في سبيل الله هو نوع من الإِسراف والتبذير .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم ، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم .
وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن{[4479]} . يعني : تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [ قد ]{[4480]} قرأه البر والفاجر . رواه ابن مَرْدُويه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : " رأس الحكمة مخافة الله " {[4481]} .
وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم . وقال إبراهيم النخَعي : الحكمة : الفهم . وقال أبو مالك : الحكمة : السنة . وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ، عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه{[4482]} غير أنه لا يوحى إليه " {[4483]} . رواه{[4484]} وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع{[4485]} عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر {[4486]} وقوله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد{[4487]} قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " {[4488]} .
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[4489]} .
وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام .
{ يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم ، فقد أوتي خيراً كثيراً .
واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع هي القرآن والفقه به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يعني المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : الحكمة : القرآن ، والفقه في القرآن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والحكمة : الفقه في القرآن .
حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : حدثنا شعيب بن الحبحاب ، عن أبي العالية : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال : الكتاب والفهم فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قوله : يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ . . . الآية ، قال : ليست بالنبوّة ، ولكنه القرآن والعلم والفقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الفقه في القرآن .
وقال آخرون : معنى الحكمة : الإصابة في القول والفعل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهداً قال : وَمَنْ يُءَوتَ الحِكْمَةَ قال : الإصابة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : يُءَوتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : يؤتي إصابته من يشاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يُؤْتِي الحِكَمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : الكتاب ، يؤتي إصابته .
وقال آخرون : هو العلم بالدين . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ العقل في الدين ، وقرأ : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الحكمة : العقل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لمالك : وما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .
وقال آخرون : الحكمة : الفهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، قال : الحكمة : هي الفهم . وقال آخرون : هي الخشية . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ . . . الآية ، قال : الحكمة : الخشية ، لأن رأس كل شيء خشية الله ، وقرأ : إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ .
وقال آخرون : هي النبوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُءَوَت الحِكْمَةَ . . . الآية . قال : الحكمة : هي النبوّة .
وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة ، وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء ، وأنها الإصابة بما دلّ على صحته ، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع . فإذا كان ذلك كذلك معناه ، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلاً فيما قلنا من ذلك ، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة . وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضعٍ الصواب في أموره فهماً خاشياً لله فقيهاً عالماً ، وكانت النبوّة من أقسامه ، لأن الأنبياء مسددون مفهّمون ، وموفّقون لإصابة الصواب في بعض الأمور ، والنبوّة بعض معاني الحكمة .
فتأويل الكلام : يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيراً كثيراً .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُو الألْبَابِ .
يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالَهُم بما وعظ به غيرهم فيها ، وفي غيرها من آي كتابه ، فيذكر وعده ووعيده فيها ، فينزجر عما زجره عنه ربه ، ويطيعه فيما أمره به ، إِلاّ أُولُوا أَلالْبَابِ ، يعني : إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن الله عزّ وجلّ أمره ونهيه . فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحِجا والحلوم ، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النّهَى والعقول .
هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة ، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل .
فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به ، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء . فالمعنى : هذا من الحكمة التي آتاكم الله ، فهو يؤتى الحكمة من يشاء ، وهذا كقوله : { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] .
قال الفخر : « نبه على أنّ الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمان على وعد الشيطان هو أنّ وعد الرحمان ترجّحه الحكمة والعقل ، ووعدَ الشيطان ترجّحه الشهوة والحسّ من حيث إنّهما يأمران بتحصيل اللذّة الحاضرة ، ولا شك أنّ حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرّأ عن الزيغ ، وحكم الحسّ والشهوة يوقع في البلاء والمحنة . فتعقيب قوله : { والله يعدكم مغفرة } [ البقرة : 268 ] ، بقوله : { يؤتي الحكمة } إشارة إلى أنّ ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة ، وأنّ الحكمة كلّها من عطاء الله تعالى ، وأنّ الله تعالى يعطيها من يشاء .
والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم ، فلذلك قيل : نزلت الحكمة على ألسنة العرب ، وعقول اليونان ، وأيدي الصينيين . وهي مشتقة من الحُكْم وهو المنع لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال ، قال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1 ] ، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس ، حَكَمَة .
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك ، من سلامة عقله واعتدال قواه ، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له ، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة ، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة ، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير . وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب .
والحكمة قسمت أقساماً مختلفةَ الموضوع اختلافاً باختلاف العصور والأقاليم . ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين ، وعند أهل الصين البوذيين ، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت ، وعند القبط في حكمة الكهنة . ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهُذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين : حكمة عملية ، وحكمة نظرية .
فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس ، وهي تنحصر في تهذيب النفس ، وتهذيب العائلة ، وتهذيب الأمة .
والأول علم الأخلاق ، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية ، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان .
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية .
وأما الحكمَة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال ، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال ، وهي ثلاثة علوم :
علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ .
فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد ، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنَبات والحيوان والإنسان ، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم .
والرياضيّ الحساب والهندسة والهيأة والموسيقى ، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة ( الماكينية ) وجرّ الأثقال .
وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام : معاني الموجودات ، وأصول ومبادىء وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة ، وإثبات واجب الوجود وصفاتِه ، وإثبات الأرواح والمجرّدات ، وإثبات الوحي والرسالة ، وقد بَيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا .
فأمّا المتأخّرون من حكماء الغرب فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات .
والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول :
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق ، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة .
الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان ، وهو علم الأخلاق .
الثالث تهذيب العائلة ، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل .
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية ، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية . ودعوةُ الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة .
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مراداً بها ما فيه صلاح النفوس ، من النبوءة والهدى والإرشاد . وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير ، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة ، وكليات جامعة لجماع الآداب . . وذكر الله تعالى في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] الآيات . وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال ، كما فعل زُهير في الأبيات التي أولها « رأيت المنايا خبط عشواء » والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته . وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمْثاله ، فكان العرب ينقلون منها أقوالاً . وفي « صحيح البخاري » في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حُصين قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخياء لا يأتي إلاّ بخير ، فقال بُشير بن كعب العدوي : مَكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقاراً وإنّ من الحياء سكينة ، فقال له عمران : أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن صحيفتك " .
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته ، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته .
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر ، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان ، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول . وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات . بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين ، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا ، وميّزوا علم الحكمة عن غيره ، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاماً عظيمة وأبقوا كثيراً . وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية ، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية . والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية . وعنهما أخذ أفلاطون ، واشتهر أصحابه بالإشراقيين ، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم ، وسُمّيت أتباعه بالمشَّائين ، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا .
{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة . والخيرُ الكثير منجّر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي ، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها ؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي . وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجّرا من المعارف والعلم بالحقائق ، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعاً في البؤس والشقاء .
وقرأ الجمهور { ومن يؤت } بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب ، على أنّ ضمير يؤت نائبُ فاعل عائد على من الموصولة وهو رَابطُ الصلة بالموصول . وقرأ يعقوب ومن يؤتتِ الحكمة بكسر المثناة الفوقية بصيغة البناء للفاعل . فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائِداً إلى الله تعالى ، وحينئذ فالعائِد ضمير نصب محذوف والتقدير : ومن يؤته اللَّهُ .
وقوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } تذييل للتنبيه على أنّ من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللّب . وأنّ تذّكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللّب وقوته واللّب في الأصل خلاصة الشيء وقلبُه ، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنّه أنفع شيء فيه .