37- واذكر إذ تقول لزيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه بهداية الإسلام ، وأنعمت عليه بالتربية والعتق ، أمسك عليك زوجك - زينب بنت جحش - واتق الله فيها ، واصبر على معاشرتها ، وتخفي في نفسك ما الله مظهره من أنه سيطلقها وأنك ستتزوجها ، وتخاف أن يُعيِّرك الناس ، والله هو الجدير بأن تخافه ، ولو كان في ذلك مشقة عليك . فلما قضى زيد منها حاجته وطلقها تخلصاً من ضيق الحياة معها زوجناكها . لتكون قدوة في إبطال هذه العادة المرذولة ، ولا يتحرج المسلمين بعد ذلك من التزوج بزوجات من كانوا يتبنونهم بعد طلاقهن . وكان أمر الله الذي يريده واقعاً لا محالة .
{ 37 ْ } { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ }
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين ، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة ، من جميع الوجوه وأن أزواجهم ، لا جناح على من تبناهم ، في نكاحهن .
وكان هذا من الأمور المعتادة ، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير ، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله ، وفعلاً ، وإذا أراد اللّه أمرًا ، جعل له سببًا ، وكان زيد بن حارثة يدعى " زيد بن محمد " قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فصار يدعى إليه حتى نزل { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ْ } فقيل له : " زيد بن حارثة " .
وكانت تحته ، زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد وقع في قلب الرسول ، لو طلقها زيد ، لتزوَّجها ، فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد ، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها .
قال اللّه : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ْ } أي : بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ْ } بالعتق{[1]} حين جاءك مشاورًا في فراقها : فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته{[2]} مع وقوعها في قلبك : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ْ } أي : لا تفارقها ، واصبر على ما جاءك منها ، { وَاتَّقِ اللَّهَ ْ } تعالى في أمورك عامة ، وفي أمر زوجك خاصة ، فإن التقوى ، تحث على الصبر ، وتأمر به .
{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ْ } والذي أخفاه ، أنه لو طلقها زيد ، لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم .
{ وَتَخْشَى النَّاسَ ْ } في عدم إبداء ما في نفسك { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ْ }{[3]} وأن لا تباليهم شيئًا ، { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ْ } أي : طابت نفسه ، ورغب عنها ، وفارقها . { زَوَّجْنَاكَهَا ْ } وإنما فعلنا ذلك ، لفائدة عظيمة ، وهي : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } حيث رأوك تزوجت ، زوج زيد بن حارثة ، الذي كان من قبل ، ينتسب إليك .
ولما كان قوله : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } عامًا في جميع الأحوال ، وكان من الأحوال ، ما لا يجوز ذلك ، وهي قبل انقضاء وطره منها ، قيد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ } أي : لا بد من فعله ، ولا عائق له ولا مانع .
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة ، فوائد ، منها : الثناء على زيد بن حارثة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أن اللّه سماه في القرآن ، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره .
والثاني : أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه ، أي : بنعمة الإسلام والإيمان . وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن ، ظاهرًا وباطنًا ، وإلا ، فلا وجه لتخصيصه بالنعمة ، لولا أن المراد بها ، النعمة الخاصة .
ومنها : أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق .
ومنها : جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ ، كما صرح به .
ومنها : أن التعليم الفعلي ، أبلغ من القولي ، خصوصا ، إذا اقترن بالقول ، فإن ذلك ، نور على نور .
ومنها : أن المحبة التي في قلب العبد ، لغير زوجته ومملوكته ، ومحارمه ، إذا لم يقترن بها محذور ، لا يأثم عليها العبد ، ولو اقترن بذلك أمنيته ، أن لو طلقها زوجها ، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما ، أو يتسبب بأي سبب كان ، لأن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أخفى ذلك في نفسه .
ومنها : أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، قد بلغ البلاغ المبين ، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه ، إلا وبلغه ، حتى هذا الأمر ، الذي فيه عتابه .
وهذا يدل ، على أنه رسول اللّه ، ولا يقول إلا ما أوحي إليه ، ولا يريد تعظيم نفسه .
ومنها : أن المستشار مؤتمن ، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير{[4]} ولو كان له حظ نفس ، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه .
ومنها : أن من الرأي : الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال ، فهو أحسن من الفرقة .
ومنها : [ أنه يتعين ]{[5]} أن يقدم العبد خشية اللّه ، على خشية الناس ، وأنها أحق منها وأولى .
ومنها : فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين ، حيث تولى اللّه تزويجها ، من رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، من دون خطبة ولا شهود ، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتقول زوجكن أهاليكن ، وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات .
ومنها : أن المرأة ، إذا كانت ذات زوج ، لا يجوز نكاحها ، ولا السعي فيه وفي أسبابه ، حتى يقضي زوجها وطره منها ، ولا يقضي وطره ، حتى تنقضي عدتها ، لأنها قبل انقضاء عدتها ، هي في عصمته ، أو في حقه الذي له وطر إليها ، ولو من بعض الوجوه .
ثم ذكر - سبحانه - قصة زواج النبى صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش ، وما ترتب على هذا الزواج من هدم لعادات كانت متأصلة فى الجاهلية فقال - تعالى - : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن قلت للذى أنعم الله - تعالى - عليه بنعمة الإِيمان ، وهو زيد بن حارثة - رضى الله عنه - .
وأنعمت عليه ، بنعمة العتق ، والحرية ، وحسن التربية ، والمحبة ، والإِكرام . .
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أى : اذكر وقت قولك له : أمسك عليك زوجك زينب بنت جحش ، فلا تطلقها ، واتق الله فى أمرها ، واصبر على ما بدر منها فى حقك . . .
وكان زيد - رضى الله عنه - قد اشتكى للنبى صلى الله عليه وسلم من تطاولها عليه ، وافتخارها بحسبها ونسبها ، وتخشينها له القول ، وقال : يا رسول الله ، إنى أريد أن أطلقها .
وقوله - تعالى - : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } معطوف على { تَقُولُ } . أى : تقول له ذلك وتخفى فى نفسك الشئ الذى أظهره الله - تعالى - لك ، وهو إلهامك بأن زيدا سيطلق زينب ، وأنت ستتزوجها بأمر الله - عز جل - .
قال الآلوسى : والمرد بالموصول { مَّا } عل ما أخرج الحكيم الترمذى وغيره عن على ابن الحسين ما أوحى الله - تعالى - به إليه من أن زينب سيطلقها زيد . ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم .
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين ، كالزهرى ، وبكر بن العلاء ، والقشيرى ، والقاضى أبى بكر بن العربى ، وغيرهم .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } جملة : الله مبدية صلة الموصول الذى هو { مَا } . وما أبداه - سبحانه - هو زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب ، وذلك فى قوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } وهذا هو التحقيق فى معنى الآية ، الذى دل عليه القرآن ، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم .
وبه تعلم أن ما قاله بعض المفسرين ، من أن ما أخفاه فى نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله - تعالى - ، وهو وقوع زينب فى قلبه صلى الله عليه وسلم ومحبته لها ، وهى زوجة لزيد ، وأنها سمعته يقول عندما رآها : سبحان مقلب القلوب . . إلى آخر ما قالوا . . كله لا صحة له . .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ذكر ابن جرير وابن أبى حاتم - وغيرهما - هاهنا آثارا عن بعض السلف ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا ، لعدم صحتها . فلا نوردها . .
هذا ، ولفضيلة شيخنا الجليل الدكتور أحمد السيد الكومى رأى فى معنى هذه الجملة الكريمة ، وهو أن ما أخفاه الرسول فى نفسه : هو علمه بإصرار زيد على طاقه لزينب ، لكثرة تفاخرها عليه ، وسماعه منها ما يكرهه .
وما لا يستطيع معه الصبر على معاشرتها .
وما أبداه الله - تعالى - : هو علم الناس بحال زيد معها ، ومعرفتهم بأن زينب تخشن له القول ، وتسمعه ما يكره ، وتفخر عليه بنسبها . .
فيكون المعنى : تقول للذى أنعم الله عليه ، وأنعمت عليه ، أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى فى نفسك أن زيدا لن يستطيع الصبر على معاشرة زوجه لوجود التنافر بينهما . . مع أن الله - تعالى - قد أظهر ذلك عن طريق كثرة شكوى زيد منها ، وإعلانه أنه حريص على طلاقها ، ومعرفة كثير من الناس بهذه الحقيقة . . .
ومما يؤيد هذا الرأى أنه لم يرد لا فى الكتاب ولا فى السنة ما يدل دلالة صريح على أن الله قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيدا سيطلق زينب ، وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها ، بكل ما ورد فى ذلك هى تلك الرواية التى سبق أن ذكرناها عن على بن الحسين - رضى الله عنهما - .
قال صاحب الظلال : وهذا الذى أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم فى نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . والجهر به فى حينه مهما كانت العواقب التى يتوقعها عن إعلانه . ولكنه صلى الله عليه وسلم كان أمام إلهام يجده فى نفسه ، ويتوجس فى الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه فى النهاية . وهو لا يفكر لا هو لا زينب فيما سيكون بعد . .
وهذه الأوقال جميعها تهدم هدما تاما كل الروايات التى رويت عن هذا الحادث ، والى تشب بها أعداء الإِسلام فى كل زمان ومكان ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات .
وقوله - سبحانه - : { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .
أى : تقول له ما قلت ، وتخفى فى نفسك ما أظهره الله ، وتخشى أن تواجه الناس بما ألهمك الله - تعالى - به من أمر زيد وزينب ، مع أن الله - تعالى - أحق بالخشية من كل ما سواه .
فالجملة الكريمة عتاب رقيق من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وإرشاد له إلى أفضل الطرق ، وأحكم السبل ، لمجابهة أمثال هذه الأمور ، وحلها حلا سليما .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فقال : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } .
الوطر : الحاجة . وقضاء الوطر : بلوغ منتهى ما تريده النفس من الشئ ، يقال : قضى فلان وطره من هذا الشئ : إذا أخذ اقصى حاجته منه .
والمراد هنا : أن زيدا قضى حاجته من زينب ، ولم يبق عنده أدنى رغبة فيها ، بل صارت رغبته العظمى فى مفارقتها .
أى : فلما قضى زيد حاجته من زينب ، وطلقها ، وانقضت عدتها ، زوجناكها ، أى : جعلناها زوجة لك ، { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } أو ضيق أو مشقة { في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } أى : فى الزواج من أزواج أدعيائهم ، الذين تبنوهم { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أى : إذا طلق هؤلاء الأدعياء أزواجهم ، وانقضت عدة هؤلاء الأزواج ، فلا حرج على الذين سبق لهم هؤلاء الأدعياء أن يتزوجوا بنسائهم ، ولهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
{ وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أى : وكان ما يريده الله - تعالى - حاصلا لا محالة .
قال الإِمام ابن كثير : قوله : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } أى : لما فرغ منها وفارقها زوجناكها ، وكان الذى ولى تزويجها منهه هو الله - عز وجل - بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل بها بلا ولىّ ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر . .
روى الإِمام أحمد عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب - رضى الله عنها - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة " اذهب فاذكرها على " فانطلق حتى آتاها وهى تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع أن أنظر إليها . وجعلت أقول - وقد وليتها ظهرى ، ونكصت على عقبى - يا زينب . أبشرى . أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى - أى : أستشيره فى أمرى - فقامت إلى مسجدها . ونزول القرآن . وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن " .
وروى البخارى عن أنس بن مالك ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجنى الله من فوق سبع سماوات . .
وقال الإِمام الشوكانى : وقوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } .
أى : فى التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا ، كما كانت تفعله العرب ، فإنهم كانوا يتبنون من يريدون . . وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه ، كما تحرم نساء أبنائهم على الحقيقة ، والأدعياء : جمع دعى ، وهو الذى يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة . فأخبرهم الله - تعالى - أن نساء الأدعياء حلال لهم - بعد انقضاء العدة - بخلاف الأبناء من الصلب ، فإن نساءهم تحرم على الآباء بنفس العقد عليها . .
يقول تعالى مخبرا عن نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه ، أي : بالإسلام ، ومتابعة الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه } أي : بالعتق من الرق ، وكان سيدًا كبير الشأن جليل القدر ، حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له : الحِبّ ، ويقال لابنه أسامة : الحِبّ ابن الحِبّ . قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه . رواه أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي عنها {[23515]} .
وقال{[23516]} البزار : حدثنا خالد بن يوسف ، حدثنا أبو عَوَانة( ح ) ، وحدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو عوانة ، أخبرني عمران بن أبي سلمة{[23517]} ، عن أبيه : حدثني أسامة بن زيد قال : كنت في المسجد ، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، فقالا يا أسامة ، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأتيتُ رسولَ الله فأخبرته ، فقلت : علي والعباس يستأذنان ؟ فقال : " أتدري ما حاجتهما ؟ " قلت : لا يا رسول الله . فقال : " لكني أدري " ، قال : فأذن لهما . قالا يا رسول الله ، جئناك لتخبرنا : أيُّ أهلك أحبُّ إليك ؟ فقال : " أحب أهلي إليَّ فاطمة بنت محمد " قالا يا رسول الله ، ما نسألك عن فاطمة . قال : " فأسامة بن زيد بن حارثة ، الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " {[23518]} .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية - وأمها أميمة{[23519]} بنت عبد المطلب - وأصدقها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخِمارا ، ومِلْحَفة ، ودرْعًا ، وخمسين مُدّا من طعام ، وعشرة أمداد من تمر . قاله مقاتل بن حيان ، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له : " أمسك عليك زوجك ، واتق الله " . قال الله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } .
ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف ، رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفَحا لعدم صحتها فلا نوردها .
وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثًا ، من رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس فيه غرابة تركنا سياقه أيضا{[23520]} .
وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا فقال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا مُعَلَّى{[23521]} بن منصور ، عن حماد بن زيد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : إن هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في شأن زينب بنت جحش ، وزيد بن حارثة ، رضي الله عنهما{[23522]} .
وقال{[23523]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن عيينة ، عن علي بن زيد بن جُدْعان قال : سألني علي بن الحسين ما يقول الحسن في قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] }{[23524]} ؟ فذكرت له فقال : لا ولكن الله أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك . فقال : قد أخبرتك أني مُزَوّجكها ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
وهكذا رُوي عن السُّدِّي أنه قال نحو ذلك .
وقال{[23525]} ابن جرير : حدثني إسحاق بن شاهين ، حدثني خالد ، عن داود عن عامر ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله ، لكتم : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }{[23526]} .
وقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } : الوطر : هو الحاجة والأرب ، أي : لما فَرَغ منها ، وفارقها ، زَوّجناكها ، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله ، عز وجل ، بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر .
قال{[23527]} الإمام أحمد : حدثنا هاشم - يعني : ابن القاسم أبو النضر - حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها علي " . فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري - حتى ما أستطيع أن أنظر إليها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت{[23528]} على عقبي ، وقلت : يا زينب ، أبشري ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، عز وجل . فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ واتبعته ]{[23529]} فجعل يتتبع حُجر نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر . قال : فانطلق حتى دخل البيت ، فذهبت أدخل معه ، فألقي الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ، ووعظ القوم بما وعظوا به : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية .
ورواه مسلم والنسائي من طرق ، عن سليمان{[23530]} بن المغيرة ، به . {[23531]}
وقد روى البخاري ، رحمه الله ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات{[23532]} .
وقد قدمنا في " سورة النور " عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت زينب وعائشة ، فقالت زينب ، رضي الله عنها{[23533]} : أنا التي نزل تزويجي من السماء ، وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذْري من السماء ، فاعترفت لها زينب ، رضي الله عنها . {[23534]}
وقال{[23535]} ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير جبريل عليه السلام . {[23536]}
وقوله : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي : إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك ؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له : " زيد بن محمد " ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ، ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم } [ النساء : 23 ] ليحترز من الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيرًا فيهم .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحَتَّمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتابا من الله له وَ اذكر يا محمد إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ بالهِداية وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألِقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تكون قد بانت منه لينكحها ، وَاتّقِ اللّهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوّجها إن هو فارقها ، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك وتَخْشَى النّاسَ واللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلّقها ، والله أحقّ أن تخشاه من الناس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ قال : وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها . قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها قوله : وتُخْفِي في نفسك ما اللّهُ مُبْدِيهِ ولو كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتمها وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ قال : خشِي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، ابنة عمته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريده وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشف ، وهي في حجرتها حاسرة ، فوقع إعجابها في قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما وقع ذلك كرّهت إلى الاَخر ، فجاء فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : «ما لَكَ ، أرَابَكَ مِنْها شَيْءٌ ؟ » قال : لا ، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت إلا خيرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ » ، فذلك قول الله تعالى : وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ تخفي في نفسك إن فارقها تزوّجتها .
حدثني محمد بن موسى الجرشي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي حمزة ، قال : نزلت هذه الاَية : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيه في زينب بنت جحش .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، عن عليّ بن حسين ، قال : كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما أتاه زيد يشكوها قال : اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، قال الله : وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ .
وقوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها يقول تعالى ذكره : فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته ، وهي الوطر ومنه قول الشاعر :
وَدّعَنِيِ قَبْلَ أن أُوَدّعَهُ *** لَمّا قَضَى منْ شَبَابِنا وَطَرَا
زَوّجْناكَها يقول : زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه لكَيْلا يَكُونَ على المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ يعني : في نكاح نساء من تَبَنّوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا قضوا منهنّ حاجاتهم ، وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم ، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول : وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً : أي كائنا كان لا محالة . وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا طلّقوهنّ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبَنىّ زيد بن حارثة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا . . . إلى قوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً إذا كان ذلك منه غير نازل لك ، فذلك قول الله : وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ .
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا الذي نزل تزويجي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ . إن جدّي وجدّك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير لجبرائيلُ عليه السلام .
ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : { وإذ تقول } الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و { أمسك عليك زوجك } وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا{[9520]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره » ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال ( سبحان الله مقلب القلوب ){[9521]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله » أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك » وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال { أمسك } مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال{[9522]} ، وقوله : { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : { وأنعمت عليه } يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها{[9523]} .
و «الوطر » : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها » .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين }{[9524]} [ القصص : 7 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان غائبان{[9525]} فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير{[9526]} ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات{[9527]} .
وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل{[9528]} .