{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين . وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب ، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم ، من استعمال الحصون والخنادق ، وتعلم الرمي والركوب ، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك ، وما به يعرف مداخلهم ، ومخارجهم ، ومكرهم ، والنفير في سبيل الله .
ولهذا قال : { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي : متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش ، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية ، والراحة للمسلمين في دينهم ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالاستعداد للجهاد فى سبيل الله من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن أمرتهم قبل ذلك بطاعته وبطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . فَوْزاً عَظِيماً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ( 71 ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ( 72 ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 73 )
قال القرطبى : قوله - تعالى - { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج فى سبيل الله ، وحماية الشرع .
ووجه النظم والاتصال بما قبله أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته . وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ، فذلك أثبت لهم فقال " خذوا حذركم " فعلمهم مباشرة الحروب . ولا ينافى هذا التوكل بل هو عين التوكل . .
والحِذْر والحذَر واحد كالإِثر والأثر . يقال : أخذ فلان حذره ، إذا تيقظ واحترز ما يخشاه ويخافه . فكأنه جعل الحذر آلته التى بقى بها نفسه ويعصم بها روحه . فالكلام على سبيل الكناية والتخيل . بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية .
والمعنى : استعدوا - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، وكونوا على يقظة منهم ، وكونوا متأهبين للقائهم دائماً بالإِيمان القوى ، وبالسلاح الذى يفل سلاحهم .
هذا ، وللأستاذ الإِمام محمد عبده كلام حسن فى هذا المعنى ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : " الحذر : الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو ، وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته ومعرفة أرضه وبلاده وفى أمثال العرب ( قتلت أرض جاهلها ) . ويدخل فى الحذر والاستعداد معرفة الأسلحة وكيفية استعمالها فكل ذلك وغيره يدخل تحت الأمر بأخذ الحذر .
وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه عارفين بأرض عدوهم ، وكان للنبى صلى الله عليه وسلم جواسيس يأتونه بأخبار مكة ، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد استعد لفتحها ، وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة ( حاربهم بمثل ما يحاربونك به : السيف بالسيف ، والرمح بالرمح ) . وهذه كلمة جليلة فالقول وعمل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته .
فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } دعوة للمؤمنين فى كل زمان ومكان إلى حسن الاستعداد لمجابهة أعدائهم بشتى الأساليب وبمختلف الوسائل التى تجعل الأمة الإِسلامية يرهبها أعداؤها سواء أكانوا فى داخلها أم فى خارجها .
وقوله { فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً } تفريع على أخذ الحذر ؛ لأنهم إذا أخذوا حذرهم ، عرفوا كيف يتخيرون أسلوب القتال المناسب لحال أعدائهم وقوله { فانفروا } من النفر وهو الخروج إلى عمل من الأعمال بسرعة . ومنه قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } والمراد بقوله { فانفروا } هنا : أى اخرجوا إلى قتال أعدائكم بهمة ونشاط .
ويقال : نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدوهم .
واستنفر الإِمام الناس إذا حضهم على جهاد أعدائهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " والنفير . اسم للقوم الذين ينفرون .
وقوله { ثُبَاتٍ } جمع ثبة وهى الجماعة والعصبة من الفرسان . مأخوذة من ثبا يثبوا أى اجتمع .
والمعنى . عليكم - أيها المؤمنون - أن تكونوا دائما على استعداد للقاء أعدائكم ، ولا تغفلوا عن كيدهم . فإذا ما حان الوقت لقتالهم فاخرجوا إليهم مسرعين جماعة فى إثر جماعة ؛ أو فاخرجوا إليهم مجتمعين فى جيش واحد ، فإن قتالكم لأعداكم أحيانا يتطلب خروجكم فرقة بعد فرقة ، وأحيانا يتطلب خروجكم مجتمعين ، فاسلكوا فى قتالكم لأعدائكم الطريقة المناسبة لدحرهم والتغلب عليهم .
وقوله { ثُبَاتٍ } منصوب على الحال من الضمير فى قوله { انفروا } وكذلك قوله { جَمِيعاً } أى انفروا متفرقين أو انفروا مجتمعين أى ، ليكن نفوركم على حسب ما تقتضيه طبيعة المعركة .
قال الآلولسى : قوله { أَوِ انفروا جَمِيعاً } أى مجتمعين جماعة واحدة . ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة . وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية وهى من خمسة أنفس إلى ثلثمائة أو أربعمائة . وما زاد على السرية فمنسر - كمجلس ومنبر - إلى الثمانمائة . فإن زاد يقال له جيش إلى أربعة آلاف .
فإن زاد يسمى جحفلا . فإن يسمى خميسا وهو الجيش العظيم . وما افترق من السرية يسمى بعثا . والآية وإن نزلت فى الحرب لكن فيها إشارة إلى الحق على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات .
يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله .
{ ثُبَاتٍ } أي : جماعة بعد جماعة ، وفرقة بعد فرقة ، وسرية بعد سرية ، والثبات : جمع ثُبَة ، وقد تجمع الثبة على ثُبين .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي : عُصبا يعني : سرايا متفرقين { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } يعني : كلكم .
وكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وخُصَيف الجَزَري .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الذين آمَنُوا } صدّقوا الله ورسوله ، { خُذُوا حِذْرَكُمْ } : خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوّكم لغزوهم وحربهم . { فانْفِرُوا } إليهم { ثُباتٍ } وهي جمع ثبة ، والثبة : العصبة¹ ومعنى الكلام : فانفروا إلى عدوّكم جماعة بعد جماعة متسلحين ، ومن الثّبة قول زهير :
وَقدْ أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرَامٍ ***نَشاوَى وَاجِدينَ لِمَا نَشاءُ
{ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } يقول : أو انفروا جميعا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ } يقول : عصبا ، يعني : سرايا متفرّقين ، { أوِ انْفِرُوا جَمِيعا يعني كلكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } قال : فرقا قليلاً قليلاً .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } قال : الثبات : الفرق .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } فهي العصبة ، وهي الثبة . { أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } مع النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فانْفِرُوا ثُباتٍ } يعني : عصبا متفرّقين .
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } تيقظوا واستعدوا للأعداء ، والحذر والحذر كالأثر والأثر . وقيل ما يحذر به كالحزم والسلاح . { فانفروا } فاخرجوا إلى الجهاد . ثبات جماعات متفرقة ، جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه . { أو انفروا جميعا } مجتمعين كوكبة واحدة ، والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات .
استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة ، فإنّه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشدّ التكاليف ، ثمّ ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ، وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال . وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين ، وليس في كلام السلفِ ذكر سبب نزولها ، ولا شكّ أنّها لم تكن أوّل غزوة لأنّ غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة ، وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران ، وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأنّ قوله : { فانفِروا ثبات } يقتضي أنّهم غازون لا مغزوّون ، ولعلّها نزلت لمجرّد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدوّ ، والتحذير من العدوّ الكاشح ، ومن العدوّ الكائد ، ولعلّها إعداد لغزوة الفتح ، فإنّ هذه السورة نزلت في سنة ستّ ، وكان فتح مكة في سنة ثمان ، ولا شكّ أنّ تلك المدّة كانت مدّة اشتداد التألّب من العرب كلّهم لنصرة مشركي قريش والذبّ عن آلهتهم ، ويدلّ لذلك قوله بعد { ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين } [ النساء : 75 ] الخ ، وقوله : { فإن كان لكم فتح من الله } [ النساء : 141 ] فإنّ اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله : { فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] .
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر . وهي أكبر قواعد القتال لاتّقاء خدع الأعداء . والحِذْرُ : هو توقّي المكروه .
ومعنى ذلك أن لا يغترّوا بما بيَنهم وبين العدوّ من هدنة صلح الحديبية ، فإنّ العدوّ وأنصاره يتربّصون بهم الدوائر ، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء ، وهم الذين عنوا بقوله : { وإنَّ منكم لمن ليُبطئنّ } إلى { فوزاً عظيماً } .
ولفظ { خذوا } استعارة لمعنى شدّة الحذر وملازمته ، لأنّ حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيداً عنك . ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه ، كقوله : { خذ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، وقولهم : أخذ عليه عهداً وميثاقاً . وليس الحذر مجازاً في السلاح كما توهمّه كثير ، فإنّ الله تعالى قال في الآية الأخرى { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } [ النساء : 102 ] . فعطف السلاح عليه .
وقوله : { فانفروا ثُبات أو انفروا جميعاً } تفريع عن أخذ الحذر لأنّهم إذا أخذوا حذرهم تخيّروا أساليب القتال بحسب حال العدّو . و{ انفروا } بمعنى اخرجوا للحرب ، ومصدره النفر ، بخلاف نفر ينفُر بضمّ العين في المضارع فمصدره النفور .
و ( ثُباتٍ ) بضمّ الثاء جمع ثُبة بضمّ الثاء أيضاً وهي الجماعة ، وأصلها ثُبَية أو ثُبَوَة بالياء أو بالواو ، والأظهر أنّها بالواو ، لأنّ الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء للتأنيث أصلها الواو نحو عِزة وعضة فوزنها فعة ، وأمّا ثُبة الحوض ، وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثَاب يثوب إذا رجع ، وأصلها ثُوَبَة فخفّفت فصارت بوزن فُلة ، واستدلّوا على ذلك بأنّها تصغّر على ثويبة ، وأنّ الثبة بمعنى الجماعة تصغّر على ثُبَيَّة . قال النحّاس : « ربّما توهّم الضعيف في اللغة أنّهما واحد مع أنّ بينهما فرقا » ومع هذا فقد جعلهما صاحب « القاموس » من واد واحد وهو حَسَن ، إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلاّ إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح .
وانتصب { ثُبات } على الحال ، لأنّه في تأويل : متفرّقين ، ومعنى { جميعاً } جيشاً واحداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}: عدتكم من السلاح،
{فانفروا ثبات}: عصبا سرايا جماعة إلى عدوكم، {أو انفروا} إليهم {جميعا} مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا نفر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الذين آمَنُوا}: صدّقوا الله ورسوله.
{خُذُوا حِذْرَكُمْ}: خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوّكم لغزوهم وحربهم.
{فانْفِرُوا} إليهم {ثُباتٍ} وهي جمع ثبة، والثبة: العصبة، ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوّكم جماعة بعد جماعة متسلحين. {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا}: أو انفروا جميعا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} قيل: خذوا عدتكم من السلاح. وقيل: {خذوا حذركم} من جميع ما يحترز [به] من العدو، كقوله سبحانه وتعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} الآية (الأنفال: 60) وقوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) أمر الله عز وجل بالاستعداد للعدو، وهو الإعداد له؛ إذ يوكل الأمر في ذلك إلى الله دون الإعداد للعدو قبل لقائه، وإن كان يقدر على نصر أوليائه وقهر عدوه من غير الأمر بالقتال معهم؛ إذ في ذلك محنة امتحنهم بها. فعلى ذلك أمرهم بالإعداد للعدو وأخذ الحذر منهم. وتلك أسباب تعد قبل لقائهم إياه. وفيه دلالة تعلم آداب الحرب قبل لقاء العدو ليحترس منه. وفيه دلالة إباحة الكسب لأنه فرض عليهم الجهاد، وأمر بالإعداد له ليحترس من العدو؛ ولا يوصل إلى ذلك إلا بالكسب، والله أعلم...
وفي قوله تعالى أيضا: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} أي تحذرون به عدوكم. وما تحذرونه (فيه وجوه): منها الأسلحة، ومنها البنيان، ومنها النكار عند الالتقاء، وذكر الله عز وجل كما قال: {فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} (الأنفال: 45). وفي هذا أمر بالإعداد للعدو قبل اللقاء. وأيد ذلك قوله عز وجل: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46)، وكذلك قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال: 60) فيكون الأمر بالإعداد قبل وقت الحاجة دليل جواز الكسب لحاجات تجددت. والاستعداد للحاجات ليس برغبة في الدنيا؛ إذ لم يكن في الإعداد فشل ولا ترك التوكل. على أن الجوع وحاجات النفس تعين على تلقي العدو، ولا حول ولا قوة إلا بالله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خُذُواْ حِذْرَكُمْ} الحِذْرُ والحَذَر بمعنى... يقال: أخذ حذره، إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى: احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم {فانفروا} إذا نفرتم إلى العدوّ. إما {ثُبَاتٍ} جماعات متفرّقة سرية بعد سرية، وإما {جَمِيعاً} أي مجتمعين كوكبة واحدة، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه السلام، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع، و {خذوا حذركم}، معناه: احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره، و {انفروا} معناه: اخرجوا مجدين مصممين، يقال: نفر الرجل ينفِر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفُر بضم الفاء نفوراً، و {ثبات} معناه: جماعات متفرقات، فهي كناية عن السرايا و {جميعاً}، معناه: الجيش الكثيف مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس وغيره، والثبة: حكي أنها فوق العشيرة من الرجال.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}:
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ حَتَّى يَتَحَسَّسُوا إلَى مَا عِنْدَهُمْ، وَيَعْلَمُوا كَيْفَ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ؛ فَذَلِكَ أَثْبَتُ لِلنُّفُوسِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ بِالْجِهَادِ سَرَايَا مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمَعِينَ عَلَى الْأَمِيرِ، فَإِنْ خَرَجَت السَّرَايَا فَلَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِيَكُونَ مُتَحَسِّسًا إلَيْهِمْ وَعَضُدًا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَرُبَّمَا احْتَاجُوا إلَى دَرْئِهِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل على درجة الشهادة بعد ما ذكر من ثواب من قبل موعظته ولو في قتل نفسه، وذم من أبى ذلك بعد ما حذر من الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين المخادعين، فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها؛ التفت إلى المؤمنين ملذذاً لهم بحسن خطابه نادباً إلى الجهاد مع الإرشاد إلى الاستعداد له مما يروع الأضداد، فقال سبحانه وتعالى -منبهاً بأداة البعد وصيغة المضي إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا -: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف، فكان كالآلة له، وكان- لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات -مهملاً له، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه؛ قال سبحانه وتعالى: {خذوا حذركم} أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم: المشاققين منهم والمنافقين {فانفروا} أي اخرجوا تصديقاً لما ادعيتم إلى جهادهم مسرعين {ثبات} أي جماعات متفرقين سرية في إثر سرية. لا تملوا ذلك أصلاً {أو انفروا جميعاً} أي عسكراً واحداً، ولا تخاذلوا تهلكوا، فكأنه قال: خففت عنكم قتل الأنفس على الصفة التي كتبتها على من قبلكم، ولم آمركم إلا بما تألفونه وتتمادحون به فيما بينكم وتذمون تاركه، من موارد القتال، الذي هو مناهج الأبطال، ومشارع فحول الرجال، وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم، وللماضي أحب المحبوب، وهو الدرجة التي ما بعدها إلا درجة النبوة، مع أنه لم ينقص من أجله شيء، ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضى لقتل في غيره في ذلك الوقت.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام من أول السورة إلى قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} في موضوع خاص وهو ما يكون بين الأهل والأقارب والأزواج واليتامى من المعاملات المالية والمصاهرة والإرث. والآيات من قوله: {واعبدوا الله} إلى هنا في مطالبة المؤمنين بالإخلاص في العبادة وحسن المعاملة بين الأقربين واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب والأرقاء وسائر الناس، وأحكام بعض العبادات وبيان ما فيها من تثبيت النفس على الصدق في المعاملة، ضرب لهم فيها مثل اليهود الذين كان لهم كتاب يهتدون به ونهاهم أن يكونوا مثلهم، وعلمهم كيف يعملون بأمرهم برد الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله. وأكد أمر طاعة الله والرسول وبين حال المنافقين الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت. ولا شك أن المسلمين إذا عملوا بهذه الأحكام صلح حالهم فيما بينهم واستقامت أمورهم وصاروا متحدين متعاونين على الأعمال النافعة وحفظ الجامعة ووثق بعضهم ببعض في التعاون على مصالحهم والدفاع عن حقيقتهم، فالغرض من هذه الوصايا انتظام شمل وصلاح أمورهم الخاصة والعامة.
بعد بيان هذا، أراد الله تعالى أن يوجه المسلمين إلى أمر آخر يلي اجتماعهم على عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وانتظام شؤونهم وصلاح حالهم، وهو ما يتم لهم به الأمن وحسن الحال بالنسبة إلى غيرهم. وذلك أنه كان للمسلمين عند التنزيل أعداء يناصبونهم ويفتنونهم في دينهم، والإنسان لا يتم له نظام في معيشته ولا هناء ولا راحة إلا بالأمنين كليهما الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فلما أرشدنا الله إلى ما به أمننا الداخلي أرشدنا إلى ما به أمننا مع الخارجين عنا المخالفين لنا في ديننا، وذلك إما بمعاهدات تكون بيننا وبينهم نطمئن بها على ديننا وأنفسنا ومصالحنا وإما باتقاء شرهم بالقوة، وهذه الآيات في بيان ذلك وهي كثيرة كما يأتي.
أقول كان الأظهر عندي أن يقال إن الله تعالى بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الخ وكان قد بين لنا في هذه السورة كثيرا من مهمات الأحكام الدينية والشخصية والمدنية (كما يقال في عرف هذا العصر) ثم شدد النكير على من يرغب عن حكم غيره من أهل الطغيان، بعد هذا كله شرع يبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية ويبين لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة من الأعداء الذين يعتدون علينا.
فقال: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} قال الراغب الحذر (بالتحريك) احتراز عن مخيف. وقال عز وجل: خذوا حذركم أي ما فيه الحذر من السلاح وغيره. اه وظاهره التفرقة بين الحذر بالتحريك والحذر بكسر فسكون. وفي لسان العرب أن الحذر والحذر الخيفة. ومن خاف شيئا اتقاه بالاحتراس من أسبابه، قال في الأساس: رجل حذر متيقظ محترز وحاذر مستعد. وقال الرازي: الحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم، هذا ما ذكره صاحب الكشاف. ثم نقل عن الواحدي فيه قولين: أحدهما أنه السلاح والثاني أن المعنى احذروا عدوكم، والتحقيق ما قدمناه وهو أن الحذر الخيفة ويلزمه الاحتراز والاستعداد.
الحذر والحذر الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته وإذا كان الأعداء متعددين فلا بد في أخذ الحذر من معرفة ما بينهم من الوفاق والخلاف وأن تعرف الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، وأن يعمل بتلك الوسائل. فهذه ثلاثة لا بد منها، وذلك أن العدو إذا أنس غرة منا هاجمنا وإذا لم يهاجمنا بالفعل كنا دائما مهددين منه، فإن لم نهدد في نفس ديارنا كنا مهددين في أطرافها، فإذا أقمنا ديننا أو دعونا إليه عند حدود العدو فإنه لا بد أن يعارضنا في ذلك وإذا احتجنا إلى السفر إلى أرضه كنا على خطر. وكل هذا يدخل في قوله {خذوا حذركم} كما قال في آية أخرى {وأعدوا لهم ما استطعتم} [الأنفال:60] الخ وعلى النفوس المستعدة للفهم أن تبحث في كل ما يتوقف عليه امتثال الأمر من علم وعمل.
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده طرقها ومضايقها وجبالها وأنهارها، فإننا إذا اضطررنا في تأديبه إلى دخول بلاده فدخلناها ونحن جاهلون لها كنا على خطر، وفي أمثال العرب "قتلت أرض جاهلها "وتجب معرفة مثل ذلك من أرضنا بالأولى حتى إذا هاجمنا فيها لا يكون أعلم بها منا.
ويدخل في الاستعداد والحذر معرفة الأسلحة واتخاذها واستعمالها، فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال فيجب تحصيل كل ذلك، كما هو الشأن في هذه الأيام. ذلك أنه أطلق الحذر، أي ولا يتحقق الامتثال إلا بما تتحقق به الوقاية والاحتراز في كل زمن بحسبه. يريد رحمه الله تعالى أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيه من المدافع بأنواعها والبنادق والبوارج المدرعة وغير ذلك من أنواع السلاح وآلات الهدم والبناء وكذلك المناطيد الهوائية والطيارات. وأنه يجب تحصيل العلم بصنع هذه الأسلحة والآلات وغيرها وما يلزم لها، والعلم بسائر الفنون والأعمال الحربية وهي تتوقف على ما أشار إليه من العلوم الأخر كتقويم البلدان وخرت الأرض.
قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون وجواسيس في مكة يأتونه بالأخبار ولما أخبروه بنقض قريش العهد استعد لفتح مكة. ولما جاء أبو سفيان لتجديد العهد ظنه أنهم لم يعلموا بنكثهم لم يفلح وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة له واحدا وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف والرمح بالرمح. وهذه كلمة جليلة، فالقول وعمل النبي وأصحابه كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته.
أقول: تعرض الرازي هنا لمسألة القدر وما عسى أن يقال من عدم نفع الحذر وكونه عبثا قال: وعنه قال عليه الصلاة والسلام: (المقدور كائن والهم فضل) وقيل أيضا:لا "الحذر لا يغني من القدر" فنقول إن صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فإنه يقال إذا كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الإيمان وإن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان والطاعة. فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية. والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الأمر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل: "أي فائدة في الحذر" كلاما متناقضا لأنه لما كان الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر اه كلام الرازي.
أقول إن المسلمين قد ابتلوا بمسألة القدر كما ابتلي بها من قبلهم وقد شفي غيرهم من سم الجهل بحقيقتها فلم يعد مانعا لهم من استعمال مواهبهم في ترقية أنفسهم وأمتهم ولما يَشْفَ المسلمون. وقد كشفنا الغطاء عن وجه المسألة غير مرة ولم نر بدا مع ذلك من العود إليها في مثل هذا الموضع، لا لأن مثل الرازي ذكرها، بل لأن المسلمين أمسوا أقل الناس حذرا من الأعداء حتى أن أكثر بلادهم ذهبت من أيديهم وهم لا يتوبون ولا يذكرون، ولا يتدبرون أمر الله في هذه الآية وما في معناها ولا يمتثلون، ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي.
أما حديث المقدور كائن الخ فلا أذكر أنني رأيته في كتب المحدثين بهذا اللفظ ولكن روى البيهقي في الشعب والقدر مرفوعا "لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك" وهو ضعيف. وأما الحديث الثاني الذي عبر عنه بقوله: "وقيل أيضا" فقد رواه الحاكم عن عائشة بلفظ "لا يغني حذر من قدر" و صححه وما أراه يصح وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، والرازي ليس من رجال الحديث ولكنه رأى بالعقل أنه مخالف للآية أو مضعف من تأثير الأمر فيها، وكيف يقول الله {خذوا حذركم} ويقول رسوله أن الحذر لا ينفع لأن العبرة بالقدر الذي لا يتغير.
وإني على استبعادي لصحة الحديث وميلي إلى أنه من وضع المفسدين أفسدوا بأس الأمة بأمثال هذه الأحاديث أقول إنه لا يناقض الآية فإن الله أمرنا بالحذر لندفع عنا شر الأعداء ونحفظ حقيقتنا لا لندفع القدر ونبطله، والقدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.
ثم فرع على أخذ الحذر ما هو الغاية له والمقصد منه أو المتمم له فقال: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} (النفر) الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالفزع عن الشيء وإلى الشيء كما قال الراغب ومن الأول {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} [الإسراء:41] وهم إنما ينفرون عن القرآن لا إليه ومن الثاني النفر إلى الحرب وفيه آيات. وكانوا إذا استنفروا الناس للحرب يقولون النفير النفير. (والثبات) جمع ثبة بضم ففتح وهي الجماعة المنفردة، والمعنى فانفروا جماعة في أثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا وهو الذي يتعين إذا كان الجيش كثيرا أو كان موقع العدو يقتضي ذلك وهو الغالب، أو انفروا كلكم مجتمعين إذا قضت الحال بذلك، أو المعنى: فانفروا سرايا وطوائف على قدر الحاجة أو نفيرا عاما، ويجب هذا إذا دخل العدو أرضنا كما قال الفقهاء.
النفر مستعمل في الخروج إلى الحرب ثبات وجماعات، ولا تتقيد الجماعة بعدد معين. وجميعا يراد به جميع المؤمنين على الإطلاق، وهذا على حسب حال العدو. وإن أخذ الحذر ليشمل مع ما تقدم كيفية سوق الجيش وقيادته وهو النفر. ولما كان هذا مما قد يتساهل فيه خصه بالذكر فأمر به بهذا التفصيل ولو لم يصرح به لكان الاجتهاد في أخذ الحذر مما قد يقف دونه فلا يصل إليه، وهو أن النفر على حسب الحاجة إلى مقاومة العدو وهو أن يرسل الجيش جماعات وفرقا كما عليه العمل حتى الآن، فإذا احتيج في المقاومة إلى نفر جميع أفراد الأمة وخروجهم للجهاد وجب، وهو قوله: {أو انفروا جميعا}. وليس المراد أن يكون النفر على كيفيتين الأول أن يقسم الجيش إلى فرق وسرايا والثانية أن يسير خميسا واحدا، ليس هذا هو المراد وإنما المراد الأول.
قال: ويتوقف امتثال هذا الأمر على أن تكون الأمة كلها مستعدة دائما للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرنوا عليها بالعمل فيظهر أن المعافاة من الخدمة العسكرية ليست شرفا بل هي إباحة لترك ما أوجبه الله في كتابه. أقول ويدخل فيه اقتناء السلاح مع العلم بكيفية استعماله والتمرن على الرمي بالمدافع وببندق الرصاص في هذا الزمان، كما كانوا يتمرنون على رمي السهام، وقد قصر المسلمون في هذا وسبقهم إليه من يعيبونهم بأنهم أمة حربية، فصارت أمة السلام بدعواها قدوة لأمة الحرب في الحرب وآلاته. فيجب على الحكومة الإسلامية أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى فيه عالة على غيرها، ويجب على الأمة أن تواتيها وتساعدها عليه، وأن تلزمها إياه إذا هي قصرت فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس، نزلت في وقت مبكر.. ربما كان ذلك بعد غزوة أحد، وقبل الخندق. فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا. توحي بوجود جماعات ما لمعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد. ونرى منهج القرآن في التربية -وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع- ونرى طرفا من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج، حتى انتهى بهذه المجموعة -المختلفة الدرجات، المتخلفة السمات، الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية- إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع، الذي نشهده في أواخر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك!
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية، وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة. متمثلة في خير الجماعات.. الجماعة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنهج القرآني..
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية؛ وكيف كان يأخذ هذه النفوس؛ وكيف كان يتلطف لها؛ وكيف كان ينسق الصف، الذي يحتوي على نماذج شتى من مستويات شتى. حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع.. على الطبيعة..!
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية؛ على واقع النفس البشرية، ممثلة في تلك الجماعة المختارة.. كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف، فنترك العلاج والمحاولة! وكي لا تبقى الجماعة الأولى -على كل فضلها- مجرد حلم طائر في خيالنا، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها. من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة!
وكل هذه ذخيرة، حين نخرج بها -من الحياة في ظلال القرآن- نكون قد جنينا خيرا كثيرا إن شاء الله.. إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
أ -من يبطئ نفسه عن الجهاد في سبيل الله، ومن يبطى ء غيره. ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم، على حين أصابت المسلمين مصيبة! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة!
ب- وكان فيه من المهاجرين أنفسهم- وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة، مكفوفون عن القتال -من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة؛ ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل، ولم يكتب عليهم القتال الآن!
ج- ومن كان يرجع الحسنة- حين تصيبه -إلى الله؛ ويرجع السيئة- حين تصيبه -إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا لشدة إيمانه بالله طبعا؛ ولكن لتجريح القيادة والتطير بها!
د- ومن كان يقول:طاعة، في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول!
هـ- ومن كان يتناول الشائعات، فيذيع بها في الصف؛ محدثا بها ما يحدثه من البلبلة، قبل أن يتثبت منها، من القيادة التي يتبعها!
و -ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه. ويظن أن بعضها من عند النبي صلى الله عليه وسلم لا مما أوحي له به!
ز- ومن كان يدافع عن بعض المنافقين- كما سيأتي في مطلع الدرس التالي -حتى لتنقسم الجماعة المسلمة في أمرهم فئتين.. مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي [من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون]..
وقد يكون هؤلاء جميعا مجموعة واحدة من المنافقين؛ أو مجموعتين:المنافقين. وضعاف الإيمان، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية- ولو كان بعضهم من المهاجرين.. ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم -وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود، وفي مكة من المشركين، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين.. من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف؛ تحتاج إلى تربية طويلة، وإلى جهاد طويل!
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد، ومن هذه التربية. وعلاجا لكل خبيئة في النفس أو في الصف. في دقة، وفي عمق، وفي صبر كذلك، يتمثل في صبر النبي صلى الله عليه وسلم قائد هذا الصف، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
أ- نرى الأمر بالحذر، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى، للسرايا أو المهام الجهادية. بل يخرجون "ثبات "أي سرايا أو فصائل.. أو يخرجون جميعا في جيش متكامل. لأن الأرض حولهم ملغمة! والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامنا بينهم من المنافقين، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين!
ب- ونرى تصويرا منفرا للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة؛ وحب المنفعة القريبة؛ والتلون من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع.
ج- ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله، بالأجر العظيم، وإحدى الحسنيين: (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا)..
د- ونرى تصوير القرآن لشرف القصد، وارتفاع الهدف، ونبل الغاية، في القتال الذي يدفعهم إليه.. (في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرًا)..
هـ- كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند؛ إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا)..
و- ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف. وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية.. مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: (قل:متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلًا).. ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه؛ مهما يتخذ المرء من الاحتياط، ومهما ينكل عن الجهاد: (أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة).. ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا:هذه من عندك. قل:كل من عند الله. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك..
ز- ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله -سبحانه- ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن طاعته من
طاعته. ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده؛ ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه، الدالة على وحدة مصدره: (من يطع الرسول فقد أطاع الله).. (أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا).
ح- ثم نراه -بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء- يوجههم إلى الطريق الأسلم، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم)..
ط- ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا)..
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة؛ والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول، المنوع الأساليب.. حين نسمع الله -سبحانه- يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد -ولو كان وحيدا- وأن يحرض المؤمنين على القتال. فيكون مسئولا عن نفسه فحسب:والله يتولى المعركة: (فقاتل في سبيل الله -لا تكلف إلا نفسك- وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلًا).. وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب، واستثارة الهمم؛ بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر، والثقة ببأس الله وقوته..
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة. وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري -حتى ولو لم يكن صادرا عن نفاق أو انحراف- وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم. وهذه غاية أبعد وأطول أمدا. فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة.. ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات.. وهي تواجه المعارك الكبيرة. والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم. فانفروا ثبات، أو انفروا جميعا. وإن منكم لمن ليبطئن. فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي، إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن -كأن لم تكن بينكم وبينه مودة- يا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزا عظيما)..
إنها الوصية للذين آمنوا: الوصية من القيادة العليا، التي ترسم لهم المنهج، وتبين لهم الطريق. وإن الإنسان ليعجب، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين -بصفة عامة طبعا- الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم "استراتيجية المعركة". ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة). فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية. وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: (خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا) وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى" التاكتيك". وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)... الآيات.
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب -كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة. ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية.. ومن ثم يطلب- بحق -الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج، وتحت تصرفه وتوجيهه. وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر: منهجا للحياة الشخصية، وللشعائر والعبادات، والأخلاق والآداب، مستمدا من كتاب الله. ومنهجا للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية، مستمدا من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكاما تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة- بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة -ولا شيء وراء ذلك. وإلا فلا أيمان أصلا ولا إسلام. لا إيمان ابتداء ولا إسلام، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام. وفي أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله.
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبا من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك. ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج. والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل. وهو يحذرهم ابتداء:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)..
خذو حذركم من عدوكم جميعا. وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا)..
ثبات. جميع ثبة: أي مجموعة.. والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى. ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كله.. حسب طبيعة المعركة.. ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الإعداء، المبثوثون في كل مكان. وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي.. وهم كانوا كذلك، ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة.
وإن منكم لمن ليبطئن. فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن- كأن لم تكن بينكم وبينه مودة -يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة، فإنّه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشدّ التكاليف، ثمّ ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال. وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين، وليس في كلام السلفِ ذكر سبب نزولها، ولا شكّ أنّها لم تكن أوّل غزوة لأنّ غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة، وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران، وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأنّ قوله: {فانفِروا ثبات} يقتضي أنّهم غازون لا مغزوّون، ولعلّها نزلت لمجرّد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدوّ، والتحذير من العدوّ الكاشح، ومن العدوّ الكائد، ولعلّها إعداد لغزوة الفتح، فإنّ هذه السورة نزلت في سنة ستّ، وكان فتح مكة في سنة ثمان، ولا شكّ أنّ تلك المدّة كانت مدّة اشتداد التألّب من العرب كلّهم لنصرة مشركي قريش والذبّ عن آلهتهم، ويدلّ لذلك قوله بعد {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين} [النساء: 75] الخ، وقوله: {فإن كان لكم فتح من الله} [النساء: 141] فإنّ اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله: {فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً} [الفتح: 27].
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتّقاء خدع الأعداء. والحِذْرُ: هو توقّي المكروه.
ومعنى ذلك أن لا يغترّوا بما بيَنهم وبين العدوّ من هدنة صلح الحديبية، فإنّ العدوّ وأنصاره يتربّصون بهم الدوائر، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء، وهم الذين عنوا بقوله: {وإنَّ منكم لمن ليُبطئنّ} إلى {فوزاً عظيماً}.
ولفظ {خذوا} استعارة لمعنى شدّة الحذر وملازمته، لأنّ حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيداً عنك. ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكّر والتيقّظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه، كقوله: {خذ العفو} [الأعراف: 199]، وقولهم: أخذ عليه عهداً وميثاقاً. وليس الحذر مجازاً في السلاح كما توهمّه كثير، فإنّ الله تعالى قال في الآية الأخرى {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} [النساء: 102]. فعطف السلاح عليه.
وقوله: {فانفروا ثُبات أو انفروا جميعاً} تفريع عن أخذ الحذر لأنّهم إذا أخذوا حذرهم تخيّروا أساليب القتال بحسب حال العدّو. و {انفروا} بمعنى اخرجوا للحرب، ومصدره النفر، بخلاف نفر ينفُر بضمّ العين في المضارع فمصدره النفور.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف:
أولها: أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها: العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء، ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها: الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا يحب.
وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الحل والعقد، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (59)} (النساء).
وفي الآيات السابقة أكد الأمر بطاعة الله تعالى، وبين أن أعلى الدرجات أن يطيع المؤمن الله ورسوله، ولو أمره بأن يتقدم لإعلان الحق والنطق به، وهو يعلم أنه سيقتل.
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين،تقدمت للدفاع عن نفسها،ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال،فقد قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا}
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} يا أيها الذين أذعنوا للحق، واستجابوا لله ولرسوله، خذوا الأهبة بالحذر واتقاء أذى الأعداء، وكونوا متأهبين للقاء دائما، ولا يكن أخذ الحذر والاحتراس بالقعود في الديار، بل بالنفرة والاستعداد لمواجهة الأعداء في الميدان. فعلى المؤمنين أن ينفروا للحرب، جماعة بعد جماعة، تمر بالثغور التي تواجه الأعداء، أو تلاقي من تستطيع لقائه منهم. أو إذا تكاثف العدو في مكان، وأصبحت لا تكفيه جماعة الجند العامل، فلينفر الجند كلهم وليتقدم للميدان بكلكله، وهذا معنى النص الكريم بالإجمال ولنتجه إلى تحليل بعض العبارات من ناحية اللفظ والمعنى...
ولكن ما المراد من النفير جميعا؟ أهو الجيش المحارب كله، أم نفير الأمة كلها؟ لاشك أنه إذا لم تغن السرية وجب أن يتقدم الجيش كله، وتقدم الجيش كله هو في معنى نفير الأمة كلها؛ لأن الأمة عليها أن تكوِّن الجيش المقاتل، تؤازره وتؤيده بالمال والقول والعمل، وتكون من وراء ظهره تدفعه إلى العمل وتحميه من كل خيانة. فإن تكوين جيش مسلح كاف فرض كفاية على كل المسلمين، تأثم الأمة كلها إذا تركت تكوينه. ثم إذا دخل العدو الديار صار الواجب أن ينفر كل قادر من الأمة، وإلا كانت كلها مقصرة، ويكون الخروج فرض عين، وحين ذلك تنفر الأمة كلها حقيقة لا حكما.
إن هذا واجب المخلصين في الأمة، وفي كل أمة معوِّقون يقولون: هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا! ولذا قال سبحانه: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا}.
التاريخ البشري يؤكد أن الفساد يطم عندما يتعطل منهج السماء، والسماء تتدخل برسالة، وكل رسالة جاءت كان لها خصوم وهم المنتفعون بالشر، وهؤلاء لن يتركوا منهج الله يسيطر ليسلبهم هذه الهيمنة والسيطرة والقهر والجبروت والانتفاع بالشر، بل يحاربون رسالات السماء، ويلفتنا الحق إلى أن أهل الشر والناس المنفلتين من مناهج السماء وغير المتدينين، سيسببون لكم متاعب، فبعدما توطنون أنفسكم التوطين الإيماني انتبهوا إلى خصومكم وإلى أعدائكم في الله لقد قال الحق سبحانه وتعالى في هذه القضية: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا 71}.
لا يقال لك: خذ حذرك إلا إذا كان هناك عدو يتربص بك؛ فكلمة "خذ حذرك "هذه دليل على أن هذا الحذر مثل السلاح، مثلما يقولون: خذ بندقيتك، خذ سيفك، خذ عصاك، فكأن هذه آلة تستعد بها في مواجهة خصومك وتحتاط لمكائدهم، ولا تنتظر إلى أن تغير عليك المكائد، بل عليك أن تجهز نفسك قبل ذلك على احتمال أن توجد غفلة منك، هذا هو معنى أخذ الحذر، ولذلك يقول الحق: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} (من الآية 60 سورة الأنفال).
وهذا يعني: إياك أن تنتظر حتى يترجموا عداءهم لك إلى عدوان؛ لأنهم سيعجلونك فلا توجد عندك فرصة زمنية كي تواجههم. فلابد لكم أيها المؤمنون من أخذ الحذر لأن لكم أعداء، وهؤلاء الأعداء هم الذين لا يحبون لمنهج السماء أن يسيطر على الأرض. فحين يسيطر منهج السماء على الأرض فلن يوجد أمام أهواء الناس فرصة للتلاعب بأقدار الناس. ومن ينتفعون بسيطرتهم وبأهوائهم على البشر فلن يجدوا لهم فرصة سيادة.
{فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} أي لتكن النفرة منكم على مقدار ما لديكم من الحذر، و "ثبات" جمع ثبة وهي الطائفة أي انفروا سرية بعد سرية و "جميعا" أي اخرجوا كلكم لمواجهة العدو، وعلى ذلك يجب أن نكون على مستوى ما يهيج من الشر. فإن هاجمتنا فصيلة أو سرية، نفعل كما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يرسل سرية على قدر المسألة التي تهددنا، وإن كان الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لتعبئة عامة فنحن ننفر جميعا. ولاحظوا أن الحق يخاطب المؤمنين ويعلم أن لهم أغيارا قد تأتي في نفوسهم مع كونهم مؤمنين. فقد تخور النفس عند مواجهة الواقع على الرغم من وجود الإيمان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الحذر» يعني اليقظة والتأهب والترقب لخطر محتمل، كما يعني أحياناً الوسيلة التي يستعان بها لدفع الخطر...
والقرآن يخاطب عامّة المسلمين في الآية المذكورة أعلاه، ويقدم لهم اثنتين من التعاليم اللازمة لصيانة وجود المسلمين والمجتمع الإِسلامي تجاه كل خطر يهدد هذا الوجود.
ففي البداية تأمر الآية المؤمنين بالتمسك باليقظة والبقاء في حالة التأهب من أجل مواجهة العدو، وتحذرهم من الغفلة عن هذا الأمر: (يا أيّها الذين آمنوا خذوا حذركم...).
ثمّ تأمر الآية بالاستفادة من الأساليب والتكتيكات المختلفة في مواجهة العدو، من ذلك الزحف على شكل مجموعات إن تطلب الأمر مثل هذا الأسلوب، أو على شكل جيش موحّد مترابط إِن استدعت المواجهة هجوماً شاملا منسجماً، وفي كلتا الحالتين لابدّ من المواجهة الجماعية (فانفروا ثُبات أو انفروا جميعاً).
ذهب بعض المفسّرين إِلى أن معنى «الحذر» في الآية هو «السلاح» لا غير، بينما للحذر معنى واسع لا يقتصر على السلاح، ثمّ أن الآية (102) من هذه السورة تدل بوضوح على أنّ الحذر غير السلاح حيث يقول تعالى: (...أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم...) وجواز وضع السلاح (في الصلاة) مع أخذ الحذر يدل على أنّ الحذر لا يعنى السلاح بالذات.
الآية الكريمة هذه تشتمل على أمر عام مطلق لجميع المسلمين في كلّ العصور والأزمنة، ويدعو هذا الأمر المسلمين إِلى الالتزام باليقظة والاستعداد الدائم لمواجهة أي طارئ من جانب الأعداء ولحماية أمن الأمة، وذلك عن طريق التحلّي بالاستعداد المادي والمعنوي الدائمين.
وكلمة «الحذر» أيضاً تستوعب بمعانيها الواسعة كل أنواع الوسائل المادية والمعنوية الدفاعية التي يتحتم على المسلمين اتباعها، من ذلك التعرف على قدرة العدو من حيث العدّة والعدد، وأساليبه الحربية، والاستراتيجية، ومدى فاعلية أسلحته، وكيفية مواجهتها والاحتماء من خطرها وخطر العدوّ نفسه، وبذلك يكون المسلمون قد أوفوا من حيث العمل بما يتطلبه منهم أمر «الحذر» من الاستعداد والتأهب واليقظة لمواجهة أي خطر طارئ.
ويشتمل أمر «الحذر» أيضاً على الاستعداد النفسي والثقافي والاقتصادي، لتعبئة كافة الإِمكانيات البشرية، والاستفادة من أقوى أنواع الأسلحة وأكثرها تطوراً في الوقت المطلوب، وكذلك الإِلمام بصور استخدام هذا السلاح وأساليبه، فإِذا كان المسلمون يلتزمون بهذا الأمر ويطبقونه على حياتهم لاستطاعوا أن يجنّبوا أنفسهم وأُمّتهم الفشل والتقهقر والهزيمة على مدى تاريخهم المليء بالأحداث.
والشيء الآخر الذي يفهم من هذه الآية الكريمة، هو اختلاف أساليب مواجهة العدو بحسب ما تقتضيه الضرورة، ويعينه الظرف، ويحدد موقع العدو فلو كان هذا الموقع يتطلب مقابلة العدو بجماعات منفصلة، لوجب استخدام هذا الأسلوب مع كل ما يحتاج إِليه من عدد وعدّة وغير ذلك، وقد يكون موقع العدو بصورة تقتضي مواجهة العدو في هجوم عام ضمن مجموعة واحدة متماسكة، وعند هذا يجب أن يعدّ المسلمون العدّة اللازمة والعدد الكافي لمثل هذا الهجوم الشامل.
ومن هنا يتّضح أنّ إصرار البعض على أن يكون للمسلمين أُسلوب كفاحي واحد دون اختلاف في التكتيك لا يقوم على منطق ولا تدعمه التجارب، إِضافة إِلى أنّه يتنافى مع روح التعاليم الإِسلامية.
لعل الآية أعلاه تشير أيضاً إِلى أنّ المسألة الهامّة هي تحقيق الأهداف الواقعية سواء تطلب الأمر أن يسلك الجميع أُسلوباً واحداً، أو أن ينهجوا أساليب متنوعة.
ويفهم من كلمة «جميعاً» أنّها تعني أنّ المسلمين كافّة مكلّفون بالمشاركة في أمر مواجهة العدو، ولا يختص هذا الحكم بطائفة معينة.