17- وقد كان في الكهف فتحة متسعة في الجبل ، وهي متجهة إلى الشمال يجيئهم منها النسيم العليل ، وإذا طلعت الشمس من الشرق عن يمينهم مالت أشعتها عنهم ، وإذا غربت عن يسارهم تجاوزتهم ولم تدخل أشعتها في كهفهم ، فحرارة الشمس لا تؤذيهم . ونسيم الهواء يأتيهم ، وذلك كله من دلائل قدرة الله ، ومن يوفقه الله لإدراكها يهتدي ، ومن لا يوفقه فلا مرشد له من بعد .
أي : حفظهم الله من الشمس فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس تميل عنه يمينا ، وعند غروبها تميل عنه شمالا ، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها ، { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي : من الكهف أي : مكان متسع ، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم ، ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق ، خصوصا مع طول المكث ، وذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم ، وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في هذه الأمور ، ولهذا قال : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } أي : لا سبيل إلى نيل الهداية إلا من الله ، فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين ، { وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي : لا تجد من يتولاه ويدبره ، على ما فيه صلاحه ، ولا يرشده إلى الخير والفلاح ، لأن الله قد حكم عليه بالضلال ، ولا راد لحكمه .
قال الآلوسى : " قوله : { وترى الشمس . . } بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف . . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح ، وهو للمبالغة فى الظهور ، وليس المراد الإِخبار بوقوع الرؤية ، بل المراد الإِخبار بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين . . . " .
وقوله { تزاور } من الزور بمعنى الميل . ومنه قولهم : زار فلان صديقه ، أى : مال إليه . ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق إلى الباطل . ويقال : فلان أزور ، إذا كان مائل الصدر ، ويقال : تزاور فلان عن الشئ ، إذا انحرف عنه .
وفى هذا اللفظ ثلاث قراءات سبعية . فقد قرأ ابن عامر { تزور } بزنة تحمر . وقرأ الكوفيون - عاصم وحمزة والكسائى - { تزاور } بفتح الزاى - وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { تزَّاور } بتشديد الزاى - . وأصله تتزاور فحذفت إحدى التاءين تخفيفا .
ومعنى : { تقرضهم } تقطعهم وتتجاوزهم وتتركهم ، من القرض بمعنى القطع والصرم ، يقال : قرض المكان ، أى : عدل عنه وتركه .
والمعنى : إنك - أيها المخاطب - لو رأيت أهل الكهف ، لرأيتهم على هذه الصورة ، وهى أن الشمس إذا طلعت من مشرقها ، مالت عن كهفهم جهة اليمين ، وإذا غربت ، تراها عند غروبها ، تميل عنهم كذلك ، فهى فى الحالتين لا تصل إليهم ، حماية من الله - تعالى - لهم ، حتى لا تؤذيهم بحرها ، بأن تغير ألوانهم ، وتبلى ثيابهم .
وقوله : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } جملة حالية . أى : والحال أنهم فى مكان متسع من الكهف وهو وسطه ، والفجوة : هى المكان المتسع ، مأخوذة من الفجا ، وهو تباعد ما بين الفخذين ، ومنه قولهم : رجل أفجى ، وامرأة فَجْوَاء .
وللمفسرين فى تأويل هذه الآية اتجاهان لخصهما الإِمام الرازى فقال : " للمفسرين هنا قولان : أولهما : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل .
والثانى : يرى أصحابه أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله - تعالى - ضوءها من الوقوع عليهم ، وكذا القول فى حال غروبها ، وكان ذلك فعلا خارقا للعادة ، وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف . . " .
ومن هذين الرأيين يتبين لنا أن أصحاب الرأى الأول ، يرجعون عدم وصول حر الشمس إلى هؤلاء الفتية إلى أسباب طبيعية حماهم الله - تعالى - بها ومن بينها أن الكهف كان مفتوحا إلى جهة الشمال .
أما أصحاب الرأى الثانى فيردون عدم وصول أشعة الشمس إليهم إلى أسباب غير طبيعية ، بمعنى أن الفتية كانوا فى متسع من الكهف ، أى : فى مكان تصيبه الشمس ، إلا أن الله - تعالى - بقدرته التى لا يعجزها شئ ، منع ضوء الشمس وحرها من الوصول إليهم ، خرقا للعادة على سبيل التكريم لهم .
ومع وجاهة الرأيين ، إلا أن النفس أميل إلى الرأى الثانى ، لأن قوله - تعالى - { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } يشير إلى أنهم مع اتساع المكان الذى ينامون فيه - وهو الفجوة - لا تصيبهم الشمس لا عند الطلوع ولا عند الغروب ، وهذا أمر خارق للعادة ، ويدل على عجيب حالهم ، كما أن قوله - تعالى - بعد ذلك { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } يشعر بأن أمر هؤلاء الفتية فيه غرابة ، وليس أمراً عاديا مألوفا .
قال الآلوسى : " وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا ، وإن اختلفوا فى منشأ ذلك واختار جمع منهم ، أنه لمحض حجب الله - تعالى - الشمس على خلاف ما جرت به العادة ، والإِشارة تؤيد ذلك أتم تأييد ، والاستبعاد مما لا يلتفت إليه ، لا سيما فيما نحن فيه ، فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة . . " .
وعلى هذا الرأى الثانى يكون اسم الإِشارة فى قوله : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } إلى ما فعله الله - تعالى - معهم ، من حجب ضوء الشمس عنهم مع أنهم فى متسع من الكهف .
أى : ذلك الذى فعلناه معهم من آياتنا الدالة على قدرتنا الباهرة ، وإرادتنا التى لا يعجزها شئ .
وأما على الرأى الأول فيكون اسم الاشارة مرجعه إلى ما سبق من الحديث عنهم ، كهدايتهم إلى التوحيد ، وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، ولجوئهم إلى الكهف ، وجعل باب الكهف على تلك الكيفية ، إلى غير ذلك مما ذكر - سبحانه - عنهم .
أى : ذلك الذى ذكرناه لك عنهم - أيها الرسول الكريم - هو من آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } .
أى : من يهده الله إلى طريق الحق ، ويوفقه إلى الصواب ، فهو المهتد ، أى فهو الفائز بالحظ الأوفر فى الدارين ، ومن يضلله الله - تعالى - عن الطريق المستقيم ، فلن تجد له - يا محمد - نصيرا ينصره ، ومرشدا يرشده إلى طريق الحق .
كما قال تعالى : - { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون } وكما قال - سبحانه - : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ . . . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تبارك وتعالى، {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم}، يعني: تميل عن كهفهم فتدعهم، {ذات اليمين وإذا غربت} الشمس،
{تقرضهم} يعني: تدعهم {ذات الشمال وهم في فجوة منه}، يعني: في زاوية من الكهف،
{ذلك}، يعني: هذا الذي ذكر من أمر الفتية، {من آيات الله}، يعني: من علامات الله وصنعه.
{من يهد الله} لدينه، {فهو المهتد ومن يضلل}، عن دينه الإسلام،
{فلن تجد له وليا}، يعني: صاحبا، {مرشدا}، يعني: يرشده إلى الهدى؛ لأن وليه مثله في الضلالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره "وَتَرَى الشّمْسَ "يا محمد "إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ". يعني بقوله: تَزَاوَرُ: تعدِل وتميل، من الزّوَر: وهو الْعِوَج والميل... عن ابن عباس، قال: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض... وقوله: "وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمالِ" يقول تعالى ذكره: وإذا غربت الشمس تتركهم من ذات شمالهم. وإنما معنى الكلام: وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم، فتطلع عليه من ذات اليمين، لئلا تصيب الفتية، لأنها لو طلعت عليهم قبالهم لأحرقتهم وثيابهم، أو أشحبتهم. وإذا غربت تتركهم بذات الشمال، فلا تصيبهم يقال منه: قرضت موضع كذا: إذا قطعته فجاوزته. وكذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة. وأما الكوفيون فإنهم يزعمون أنه المحاذاة، وذكروا أنهم سمعوا من العرب قرضته قُبُلا ودُبُرا، وحذوته ذات اليمين والشمال، وقُبلاً ودبرا: أي كنت بحذائه قالوا: والقرض والحذو بمعنى واحد. وأصل القرض: القطع...
وقوله: "وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ" يقول: والفتية الذين أووا إليه في متسع منه.. وقوله: "ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ" يقول عزّ ذكره: فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء الفتية الذين قصصنا عليكم أمرهم من تصييرناهم إذ أردنا أن نضرب على آذانهم بحيث تزاور الشمس عن مضاجعهم ذات اليمين إذا هي طلعت، وتقرضهم ذات الشمال إذا هي غَرَبت، مع كونهم في المتسع من المكان، بحيث لا تُحرقهم الشمس فتُشحبهم، ولا تُبْلي على طول رقدتهم ثيابهم، فتعفَن على أجسادهم، من حجج الله وأدلته على خلقه، والأدلة التي يستدلّ بها أولو الألباب على عظيم قدرته وسلطانه، وأنه لا يُعجزه شيء أراده.
وقوله: "مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ" يقول عزّ وجلّ: من يوفّقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحقّ التي جعلها أدلة عليه، فهو المهتدي. يقول: فهو الذي قد أصاب سبيل الحقّ، "وَمَنْ يُضْلِلْ" يقول: ومن أضله الله عن آياته وأدلته، فلم يوفقه للاستدلال بها على سبيل الرشاد "فَلَنْ تَجِد لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا" يقول: فلن تجد له يا محمد خليلاً وحليفا يرشده لإصابتها، لأن التوفيق والخِذْلان بيد الله، يوفق من يشاء من عباده، ويخذل من أراد يقول: فلا يَحْزنُك إدبار من أدبر عنك من قومك وتكذيبهم إياك، فإني لو شئت هديتهم فآمنوا، وبيدي الهداية والضلال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ذلك من آيات الله} هذا يرد قول من ينكر جري الآيات على يدي غير الأنبياء، لأنه جعل في أصحاب الكهف عددا من الآيات، كلها خارجة عن احتمال وسع الخلق وعاداتهم لمفارقة قومهم لسلامة دينهم {وفيه وجوه}:
أحدهما: ما أخبر أنه ضرب على آذانهم، وأنامهم نوما، خارجا عن طبع الخلق وعاداتهم، وهو ثلاث مئة سنة. ثم {بعثناهم ليتساءلوا بينهم} (الكهف: 19) على ما أخبر عز و جل.
والثاني: لم تَبْلَ ثيابهم في مثل تلك المدة ومثل المكان ولم تتغير. ألا ترى أنهم قالوا حين بعثوا: {لبثنا يوما أو بعض يوم} (الكهف: 19) ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة لم يستقلوا ولا استقصروا كل هذا {يوما أو بعض يوم} ألا ترى أنهم فزعوا إلى الطعام، ولم يفزعوا إلى الثياب حين قالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} (الكهف: 19) ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة لكان فزعهم إلى الثياب كهو إلى الطعام، وهو أولى.
والثالث: ما أخبر من تزاور الشمس إذا طلعت ذات اليمين وقرضها إياهم ذات الشمال.
والرابع: دفع الحر والبرد عنهم من طبعهما الإهلاك والإفساد إذا اشتد، وكثر. والخامس: ما ذكر من تقليبه إياهم ذات اليمين وذات الشمال وحفظه إياهم عن أن تفسدهم الأرض، وتأكلهم؛ إذ من طبع الأرض ذلك عند امتداد الوقت. والسادس: ما ذكر في الآية من الهول والهيبة إذا دخل عليهم رسول الله واطلع حين قال: {لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رغبا} خوفا مما ترى فيهم من الأهوال. هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لمن دونه؟
والسابع: حفظه إياهم من جميع الخلائق حتى لم يطلع، ولم يعثر عليهم أحد من الخلائق.
والثامن: إبقاؤهم أحياء أكثر من ثلاث مائة سنة بلا غذاء، والأنفس لا تبقى بلا غذاء بدون ذلك الوقت، وذلك باللطف، وأمثال هذا كثير مما يكثر عدها وإحصاؤها، كله من آيات عظيمة عن وسع الخلق وعادتهم. فذلك لهم باختيارهم دين الله على دين قومهم، وبمفارقتهم إياهم ليسلم لهم دينهم؛ إذ الغلبة فيهم يومئذ الكفر، فأكرمهم الله بذلك بالكرامات التي ذكرنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السَّنِيَّة والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرّض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله...
قوله: {وترى الشمس} أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو، ومعناه أنك لو رأيته لرأيته على هذه الصورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وترى} لو رأيت كهفهم {الشمس إذا طلعت}.
ولما كان حالهم خفياً، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي، فقال تعالى: {تزاور} أي تتمايل وتتحرف، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل {عن كهفهم} بتقلص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول {ذات اليمين} إذا كنت مستقبلاً القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلاً الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار {وإذا غربت} أي أخذت في الميل إلى الغروب {تقرضهم} أي تعدل في مسيرها عنهم {ذات الشمال} كذلك، لئلا يضرهم شدة الحرارة، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع، فلا يزال كهفهم رطباً، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفساد، فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش، وأن الجبل الذي هم فيه شمالي مكة المشرفة، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله، فلا يلزم ذلك، وقال الأصبهاني: قيل: إن باب ذلك كان مفتوحاً إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله.
ومادة (قرض) وليس لها إلا هذا التركيب -تدور على القطع، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه، قرضت الشيء،- بالفتح -أقرضه- بالكسر: قطعته بالمقراض أو بغيره -لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه...
ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس، بين أنه أنعشهم بروح الهواء، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال: {وهم في فجوة منه} أي في وسط الكهف ومتسعه.
ولما شرح هذا الأمر الغريب، والنبأ العجيب، وصل به نتيجته فقال تعالى: {ذلك} أي المذكور العظيم من هدايتهم، وما دبروا لأنفسهم، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه {من ءايات الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خصت به هذه الأمة كان يسيراً.
ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجباً، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى: {من يهد} ولو أيسر هداية- بما دل عليه حذف الياء في الرسم {الله} أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها {فهو} خاصة {المهتد} في أي زمان كان، فلن تجد له مضلاً مغوياً {ومن يضلل} إضلالاً ظاهرياً بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى، فهو لا غيره الضال {فلن تجد له} أصلاً من دونه، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه أضله {ولياً مرشداً} فتجده يرى الآيات بعينه، ويسمعها بأذنه، ويحسها بجميع حواسه، ولا يعلم أنها آيات فضلاً عن أن يتدبرها وينتفع بها، فالآية من الاحتباك: ذكر الاهتداء أولاً دليلاً على حذف الضلال ثايناً، والمرشد ثانياً دليلاً على حذف المضل أولاً.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}... وفي هذا تسلية لرسوله وإرشاد له إلى أنه لا ينبغي له أن يحزن على إدبار قومه عنه، وتكذيبهم إياه، فإن الله لو شاء لهداهم وآمنوا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وللهدى والضلال ناموس. فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا. ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن، ولن تجد له من بعد هاديا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وترى الشمس إذا طلعن تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه}
عطف بعض أحوالهم على بعض. انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً} [الكهف: 16]. وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم.
والخطاب لغير معين. والمعنى: يَرى مَن تُمكنه الرؤيةُ...
وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض {فأووا إلى الكهف} [الكهف: 16] أنهم أووا إليه. والتقدير: فأخذوا بنصيحته فأووا إلى الكهف. ودل عليه قوله في صدر القصة {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف: 10] فرُد عجزُ الكلام على صدره.
و {تزاور} مضارع مشتق من الزور بفتح الزاي، وهو المَيل. وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو. وأصله: تتزاور بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفاً.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الزاي على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة. وقرأه ابن عامر ويعقوب {تزور} بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء بوزن تَحْمَرُّ. وكلها أبنية مشتقة من الزَوَر بالتحريك، وهو الميل عن المكان...
والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم.
و {تقرضهم} أي تنصرف عنهم. وأصل القَرْض القطع، أي أنها لا تطلع في كهفهم.
و {ذات اليمين وذات الشمال} بمعنى صاحبة، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام، أي الجهة صاحبة اليمين. وتقدم الكلام على {ذات} عند قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} في سورة الأنفال (1).
والتعريف في {اليمين}، و {الشمال} عوض عن المضاف إليه، أي يمين الكهف وشماله، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحاً إلى الشمال الشرقي، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتُها، وإذا غربتْ كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حينَ طلوعها.
وهذا وضع عجيب يسّره الله لهم بحكمته ليكون داخلُ الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البِلى أجسادَهم، وذلك من آيات قدرة الله.
والفجوة: المتسع من داخل الكهف، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف. وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو.
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور من قوله: {وترى الشمس}.
وآيات الله: دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق.
والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها.
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}
استئناف بياني لما اقتضاه اسمُ الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابِها.
وعموم (مَن) الشرطية يشمل المتحدَث عنهم بقرينة المقام. والمعنى: أنَهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى، تنبيهاً على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهُدى، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم، ورزقهم أفهاماً تؤمن بالحق. وقد تقدم الكلام على نظير {من يهد الله فهو المهتد}، وعلى كتابة {المهتد} بدون ياء في سورة الإسراء.
والمرشد: الذي يُبين للحيران وجه الرشد، وهو إصابة المطلوب من الخير.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن الشمس تصيبهم بأشعتها الحمراء في الصباح في طرف من الكهف، وتصيبهم بأشعتها الصفراء في طرف من الكهف أيضا في الغروب، وخير الأشعة المنعشة للأجسام الحية تكون في حمرتها في الصباح، واصفرارها في الغروب...
قد أثبتت الأبحاث خطر الأشعة خاصة على النائم، وأن للظلمة مهمة، فبها تهدأ الأعصاب وترتاح الأعضاء، والشمس خلق من خلق الله، لها مدار ثابت وقانون لا يتخلف،... ولكن الخالق سبحانه وتعالى خرق لهم نظام الشمس حتى لا يزعجهم ضوءها... الخالق سبحانه خلق الخلق، وأعطى لكل مخلوق قانونه الذي يسير به، ومع ذلك لم يترك لكل مخلوق أن يفعل بقانونه ما يريد، بل له سبحانه وتعالى قيومية على القانون، تبطله إن شاء، وتحركه إن شاء...
والهداية نوعان: هداية دلالة، وهي للجميع، للمؤمن والكافر؛ لأن الحق سبحانه لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يقبل على الإيمان به، فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة، فيأخذ بيده ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له أمره. فمن شاء الحق سبحانه هدايته أعطاه الهداية، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بين أن من شاء هدايته يهتدي، وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي، وكذلك الظالم والفاسق، لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع الحق سبحانه عنهم هداية المعونة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تدبير إلهي معجز: كيف هو موقع الكهف من الشمس؟ وأين محلّهم فيه؟ وكيف يتمثلون في وضعهم العجيب في رقادهم؟ هذا ما تمثله الآيتان وتتناوله، للإيحاء بالتدبير الإلهي المعجز الذي أبقى الحياة في أجسادهم، وألقى النوم في أجفانهم طيلة هذه المدة الطويلة للاعتبار بذلك في الانفتاح على الله سبحانه من موقع الإحساس بعظمته، والخضوع لآياته...
{مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} من خلال ما تتطلبه الهداية الإلهية من الأخذ بأسبابها في توجيه الفكر إلى التأمل، وتقوية الإرادة على الالتزام بالموقف، ومواجهة القضايا بالمسؤولية والجدّية، بالإضافة إلى ما يثيره الله سبحانه في روح الإنسان السائر في طريق الهداية من ألطاف روحيّة، ولمعات فكرية، تمنحه القوّة والثبات في مواصلة السير على هذا الخط. وهذا ما يريده الله للإنسان، في انفتاحه على آيات الله التي تثير فيه التساؤل، وتدفعه إلى البحث، وتقوده إلى التفكير، وتوحي له بالقناعات الحاسمة، لأن هذه المقدمات لا بد من أن توصل إلى النتائج المطلوبة...
{وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} لأن ضلال الإنسان يخضع للفكر اللامسؤول، الذي يواجه قضايا الفكر والعقيدة والحياة بطريقة غير جدّية، ويبقى في أجواء العبث واللهو واللامبالاة، وبذلك يبتعد الإنسان عن مواقع الهدى في الحياة، فلا يجد له معيناً على السير في الاتجاه الصحيح، ولا مرشداً يدلّه على طريق الصواب ليضع أقدامه على بدايته، لأن مسألة الضلال والهدى، هي مسألة الإنسان في استعداده النفسي والفكري للانفتاح على الحق... وقد أشرنا أكثر من مرّة إلى أن نسبة الهدى والضلال إلى الله لا تعني سلبهما عن الإنسان بشكل مباشر، بل كل ما هناك أنهما يخضعان لقاعدة السببيّة في الأشياء التي تربط المسببات بأسبابها، في تدبير الله لحركة الإنسان والحياة، باعتباره السبب الأعمق لكل الأشياء...