البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا} (17)

تزورّ : تروع وتميل . وقال الأخفش : تزور تنقبض انتهى . والزور الميل والأزور المائل بعينه إلى ناحية ، ويكون في غير العين . قال ابن أبي ربيعة :

وجبني خيفة القوم أزوره***

وقال عنترة :

فازور من وقع القنا بلبانه  *** وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

وقال بشر بن أبي حازم :

تؤمّ بها الحداة مياه نخل *** وفيها عن أبانين ازورار

ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق . قرض الشيء قطعه ، تقول العرب : قرضت موضع . كذا أي قطعته . وقال ذو الرمّة :

إلى ظعن يقوضن أجواز مشرف ***  شمالاً وعن أيمانهنّ الفوارس

وقال الكوفيون : قرضت موضع كذا جاذبته ، وحكوا عن العرب قرضته قبلاً ودبراً . الفجوة : المتسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين ، رجل أفجأ وامرأة فجواء وجمع الفجوة فجآء . هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم ، والتقدير { فأووا إلى الكهف } فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء .

وقرأ الحرميان ، وأبو عمر و { تزّاور } بإدغام تتزاور في الزاي .

وقرأ الكوفيون ، والأعمش ، وطلحة ، وابن أبي ليلى ، وابن مناذر ، وخلف ، وأبو عبيد ، وابن سعدان ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن عامر ، وقتادة ، وحميد ، ويعقوب عن العمري : تزورّ على وزن تحمرّ .

وقرأ الجحدري ، وأبو رجاء ، وأيوب السختياني ، وابن أبي عبلة ، وجابر ، وورد عن أيوب { تزوار } على وزن تحمارّ .

وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : تزوئرُّ بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأمّ واشعألّ بالهمز فراراً من التقاء الساكنين ، والمعنى تزوغ وتميل .

و { ذات اليمين } جهة يمين الكهف ، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية .

و { تقرضهم } لا تقربهم من معنى القطيعة { وهم في فجوة } أي متسع من الكهف .

وقرأ الجمهور : { تقرضهم } بالتاء .

وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف .

قال ابن عباس : المعنى أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس البتة .

وقالت فرقة : إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم ، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور ، وهم في زاوية .

وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر .

قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه .

وقال الزمخشري : المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم انتهى .

وهو بسط قول الزجّاج .

قال الزجاج : فعل الشمس آية { من آيات الله } دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك .

وقال أبو عليّ : معنى { تقرضهم } تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً كالقرض يسترد ، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى .

ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعياً فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة .

لكنه من القطع ، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً .

قيل : ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلاً لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فيهلكوا ، والمعنى أنه تعالى دبر أمرهم فأسكنهم مسكناً لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمى ، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن .

والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة ، ومن قال إنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم { من آيات الله } وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوّهم وإلقاء الهيبة عليهم ، وصرف الشمس عنهم يميناً وشمالاً لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة ، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزّق .

ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله { من يهد الله فهو المهتد } وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف ، { ومن يضلل } عام أيضاً مثل دقيانوس الكافر وأصحابه ،