{ وَتَرَى الشمس } بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلاً على ما سبق من قوله تعالى : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } [ الكهف : 10 ] وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه ، وجوز أن يكون إيذاناً بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادراً عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضاً جملاً أخرى لا تخفي ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الأخبار بوقوع الرؤية بل الأنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس { إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفاً وهي قراءة الكوفيين والأعمش . وطلحة وابن أبي ليلى . وخلف . وابن سعدان . وأبي عبيدة . وأحمد بن جبير الأنطاكي . ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وقرأ الحرميان . وأبو عمرو { تَّزَاوَرُ } بفتح التاء وتشديد الزاي ، وأصله أيضاً تتزاور إلا أنه أدغمت التاء الزاي بعد قلبها زاياً ، وقرأ ابن أبي إسحاق . وابن عامر . وقتادة . وحميد . ويعقوب عن العمري { تزور } كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان ، وقد جاء ذلك نادراً . وقرأ جابر . والجحدري . وأبو بجار . والسختياني . وابن أبي عبلة . وردان عن أبي أيوب { تزوار } كتحمار وهو في البناء كسابقه ، وقرأ ابن مسعود . وأبو المتوكل { تزوئر } بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن ، ولعله إنما جيء بالهمزة فراراً التقاء الساكنين وإن كان جائزاً في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغماً في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل ، وقيده بعضهم بالخلقى ، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القرم أزور*** وقال عنترة :
فازور من وقع القنا بلبانه*** وشكا إلى بعبرة وتحمحم
تؤم بها الحداة مياه نخل*** وفيها عن أبانين ازورار
ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته ، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله :
جاءوا بزوريهم وجئنا بالأصم*** وقال الراغب : إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر ، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلاناً تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه ، والمشهور ما قدمناه ، وحكى عن أبي الحسن أنه قال : لا معنى لتزور في الآية لأن الأزوار الانقباض ، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية ، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة { ذَاتَ اليمين } أي جهة ذات يمين الكهف عنه توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه ، وهو نصب على الظرفية .
قال المبرد : في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيميناً وشمالاً .
{ وَإِذَا غَرَبَت } أي تراها عند غروبها { تَّقْرِضُهُمْ } أي تعدل عنهم ، قال الكسائي : يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به { ذَاتَ الشمال } أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق ، وقال غير واحد : هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب : قرضت موضع كذا أي قطعته . قال ذو الرمة :
إلى طعن يقرضن أقواز( {[586]} ) مشرف*** شمالاً وعن إيمانهن الفوارس
والمراد تتجاوزهم { وَهُمْ في فَجْوَةٍ مّنْهُ } أي في متسع من الكهف ، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل افجي وامرأة فجواء ، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات . وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلاً فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء ، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن ، وهو الذي يلي المغرب ، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه ، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولاتقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم ، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم ؛ وقال الزجاج : ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى : { وَهُمْ في فَجْوَةٍ مّنْهُ } حالاً مبينة لكون ما ذكر أمراً بديعاً كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير ، واحتج عليه بقوله تعالى : { ذلك مِنْ ءايَاتِ الله } حيث جعل { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يميناً وشمالاً ، ولا يظهر كونه آية القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار . وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل ، وقال أبو علي : معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً وتستد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه ، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدو عن كهفهم وتصيبهم بالعشيء إصابة خفيفة ، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة ، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض بمعنى القطع لا بالمعنى الذي ذكره أبو علي لما سمعت وزعم أنه من باب الحذف والإيصال والأصل تقرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئاً ، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلاً لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سبباً لهلاكهم وفيه ما فيه ، وأكثر المفسرين على أهم لم تصبهم الشمس أصلاً وإن اختلفوا في منشأ ذلك .
واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا : والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لاسيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة .
وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى إطلاعه سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم على أخبارهم . واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة ، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم .
وقرئ { يقرضهم } بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس .
وقال أبو حيان : أي يقرضهم الكهف { الله مَن يَهْدِ الله } من يدل سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفق لما يحبه ويرضاه { فَهُوَ المهتد } الفائز بالحظ الأوفر في الدارين ، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والإخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضاً وهو كما ترى .
وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه { وزدناهم هُدًى } [ الكهف : 13 ] { وربطنا } [ الكهف : 14 ] وملاءمة قوله عز وجل { وَمَن يُضْلِلِ } يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه { فَلَن تَجِدَ لَهُ } أبداً وإن بالغت في التتبع والاستقصاء { وَلِيّاً } ناصراً { مُّرْشِدًا } يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إكانه إذ لو أريد مدحهم لاكتفي بقوله تعالى { فَهُوَ المهتد } وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد ، ولعل في الآية صنعة الاحتباك .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ في فَجْوَةٍ مّنْهُ } لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور ، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الكفر وجمع الحواس ، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكاناً قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة .
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراز في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها .
وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » وقيل : في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى .
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولا يتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد