إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا} (17)

{ وَتَرَى الشمس } بيانٌ لحالهم بعد ما أَوَوا إلى الكهف ، ولم يصرح به إيذاناً بعدم الحاجةِ إليه لظهور جرَيانِهم على موجب الأمرِ به لكونه صادراً عن رأي صائبٍ وتعويلاً على ما سلف من قوله سبحانه : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } وما لحق من إضافة الكهفِ إليهم وكونِهم في فجوة منه ، والخطابُ للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب ، وليس المرادُ به الإخبارَ بوقوع الرؤيةِ تحقيقاً بل الإنباءُ بكون الكهفِ بحيث لو رأيته ترى الشمس { إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } أي تتزاوَر وتتنحّى بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بإدغام التاء في الزاي ، وتزورّ كتحمرّ ، وتزْوارّ كتحمار وتزوتر ، وكلها من الزَّوَر وهو الميل { عَن كَهْفِهِمْ } الذي أووا إليه فالإفاضة لأدنى ملابسة { ذَاتَ اليمين } أي جهةَ ذاتِ يمين الكهفِ عند توجه الداخلِ إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرِبَ فلا يقع عليهم شعاعُها فيؤذيهم { وَإِذَا غَرَبَت } أي تراها عند غروبها { تَّقْرِضُهُمْ } أي تقطَعهم من القطيعة والصَّرْم ولا تقربهم { ذَاتَ الشمال } أي جهةَ ذاتِ شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرِق ، وكان ذلك بتصريف الله سبحانه على منهاج خرقِ العادةِ كرامةً لهم ، وقوله تعالى : { وَهُمْ في فَجْوَةٍ مّنْهُ } جملةٌ حالية مبينةٌ لكون ذلك أمراً بديعاً أي تراها تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم مع أنهم في متّسع من الكهف معرَّضٍ لإصابتها لولا أن صرفتْها عنهم يدُ التقدير .

{ ذلك } أي ما صنع الله بهم من تزاوُر الشمسِ وقَرْضِها حالتي الطلوعِ والغروب مع كونهم في موقع شعاعِها { مِنْ آيات الله } العجيبةِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه وحقية التوحيدِ وكرامةِ أهله عنده سبحانه وتعالى . وهذا قبل أن سد دقيانوسُ بابَ الكهف شمالياً مستقبلَ بناتِ نْعشٍ ، وأقربُ المشارقِ والمغاربِ إلى محاذاته رأسُ مشرِق السرَطان ومغربِه ، والشمسُ إذا كان مدارُها مدارَه تطلُع مائلةً عنه مقابلةً لجانبه الأيمنِ وهو الذي يلي المغربَ ، وتغرُب محاذيةً لجانبه الأيسرِ فيقع شعاعُها على جنبيه وتحلّل عفونتَه وتعدّل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادَهم ويُبْلي ثيابَهم ، ولعل ميلَ الباب إلى جانب الغرب كان أكثر ولذلك أوقع التزاورَ على كهفهم والقرضَ على أنفسهم ، فذلك حينئذ إشارةٌ إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنُه ، وأما جعلُه إشارةً إلى حفظ الله سبحانه إياهم في ذلك الكهفِ تلك المدةَ الطويلةَ أو إلى إطلاعه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم على أخبارهم فلا يساعده إيرادُه في تضاعيف القصة { مَن يَهْدِ الله } إلى الحق بالتوفيق له { فَهُوَ المهتد } الذي أصاب الفلاحَ ، والمرادُ إما الثناءُ عليهم والشهادةُ لهم بإصابة المطلوبِ والإخبارُ بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمةِ وتهيئةِ المرافق ، أو التنبيهُ على أن أمثالَ هذه الآيةِ كثيرةٌ ولكن المنتفعَ بها من وفقه الله تعالى للاستبصار بها { وَمَن يُضْلِلِ } أي يخلق فيه الضلالَ لصرف اختيارِه إليه { فَلَن تَجِدَ لَهُ } أبداً وإن بالغتَ في التتبع والاستقصاء { وَلِيّاً } ناصراً { مُّرْشِدًا } يهديه إلى ما ذكر من الفلاح لاستحالة وجودِه في نفسه ، لا لأنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه .