{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } وهو القرآن الكريم ، الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعرفنا هدايته وإرشاده ، أثر في قلوبنا ف { آمَنَّا بِهِ } .
ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا : { فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ } إيمانا صادقا { فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا } أي : لا نقصا ولا طغيانا ولا أذى يلحقه{[1251]} ، وإذا سلم من الشر حصل له الخير ، فالإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر .
ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد . . فقال - تعالى - : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً . . } .
أى : وأننا لما سمعنا الهدى ، أى : القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم { آمَنَّا بِهِ } بدون تردد أو شك { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ } وبما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } أى : نقصا فى ثوابه { وَلاَ رَهَقاً } أى : ولا يخاف - أيضا - ظلما يحلقه بزيادة فى سيئاته ، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب ، منقبض النفس .
فالمراد بالبخس : الغبن فى الأجر والثواب . والمراد بالرهق : الإِهانة والمذلة والمكروه .
والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة فى عدالة الله - تعالى - .
ثم يصفون حالهم عندما سمعوا الهدى ، وقد قرروه من قبل ، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان :
( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ) . .
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى . وهم سمعوا القرآن . ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته . ثم يقررون ثقتهم في ربهم ، وهي ثقة المؤمن في مولاه :
( فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) . .
وهي ثقة المطمئن إلى عدل الله ، وإلى قدرته ، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته . . فالله - سبحانه - عادل ، ولن يبخس المؤمن حقه ، ولن يرهقه بما فوق طاقته . والله - سبحانه - قادر . فسيحمي عبده المؤمن من البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقا ، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة . ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية الله ورعايته ? ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا ؛ ولكن هذا ليس هو البخس ، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس . وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض ؛ لكن هذا ليس هو الرهق ، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به ! وصلته بربه تهون عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة .
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق : ( فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) . . وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية ، فلا يعيش في قلق وتوجس . حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع ، ولم تغلق على نفسه المنافذ . . إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر . ويرجو فرج الله منها فيؤجر . وهو في الحالين لم يخف بخسا ولا رهقا . ولم يكابد بخسا ولا رهقا .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله : { فآمنا به } [ الجن : 2 ] .
والمقصود بالعطف قوله : { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } ، وأما جملة { لما سمعنا الهدى ءامنَّا به } فتوطئة لذلك .
بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكُّر ذلك في نفوسهم ، عادوا إلى ترغيبهم في الإِيمان بالله وحده ، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم . وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد .
ومعنى { يؤمن بربه ، } أي بوجوده وانفراده بالإِلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد .
وجملة { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن . ويجوز أن تكون كلاماً من الله موجهاً للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين .
والبخس : الغبن في الأجر ونحوه .
والرهَق : الإِهانة ، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان . وفهم منه أن من لا يؤمن يُهان بالعذاب . والخلاف في كسر همزة { إنا } وفتحها كالخلاف في التي قبلها .
وجملة { فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } جواب لِشرط ( مَن ) جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل ، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلاّ إذا كان غيرَ صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيراً إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية ، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط ، فكان التقدير هنا : فهو لا يخاف ليكون دَالاً على تحقيق سلامته من خوف البخس والرهق ، وليدل عل اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه ، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى : { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] . واجتمعا هنا كما أشار إليه في « الكشاف » بقوله : فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره . وكلام « الكشاف » اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك .
وقد نقول : إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون { لا } ناهية ، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي .
وفي « شرح الدماميني على التسهيل » : أن جواب الشرط إذا كان فعلاً منفياً ب ( لا ) يجوز الاقتران بالفاء وتركه . ولم أره لغيره وكلام « الكشاف » يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلاّ إذا قصدت مزية أخرى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.