{ 7 - 8 } { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : لا يطمعون بلقاء الله ، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون ، وأعلى ما أمله المؤملون ، بل أعرضوا عن ذلك ، وربما كذبوا به { وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بدلا عن الآخرة .
{ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } أي : ركنوا إليها ، وجعلوها غاية مرامهم{[391]} ونهاية قصدهم ، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها ، بأي طريق حصلت حصلوها ، ومن أي وجه لاحت ابتدروها ، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها ، فكأنهم خلقوا للبقاء فيها ، وكأنها ليست دار ممر ، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون ، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون .
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فلا ينتفعون بالآيات القرآنية ، ولا بالآيات الأفقية والنفسية ، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة ، عن المدلول المقصود .
ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين ، وما أعده من ثواب للطائعين ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ . . . } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإِله القادر الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها " .
والمراد بلقائه - سبحانه - الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء . والمعنى : إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها ، وأطمأنوا بها ، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها { والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا } التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { غافلون } بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء الأشقياء بأربع صفات ذميمة .
وصفهم - أولا - بعدم الرجاء في لقاء الله - بأن صاروا لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من عقاب ، لإِنكار الدار الآخرة .
ووصفهم - ثانيا - بأنهم رضوا بالحياة الدنيا ، بأن أصبح همهم محصورا فيها ، وفي لذائذها وشهواتها .
قال الإِمام الرازي : " واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحصالة بالمعارف الربانية ، وأما هخذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها " .
ووصفهم - ثالثا - بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة ، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه ، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله ، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير ، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا .
ووصفهم - رابعا - بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب ، وتهدي العقل ، وتحفز النفس إلى التفكير والتدبير .
وبالجملة فهذه الصفات الأربعة تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم ، واستحبوا الضلالة على الهدى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
والذين يرون كل هذا ، ثم لا يتوقعون لقاء الله ؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة ، وأن الدنيا ليست النهاية ، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود ؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين ، لا تحرك فيهم قلبا يتدبر ، ولا عقلا يتفكر . . هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري ، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون . إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم :
( إن الذين لا يرجون لقاءنا ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ؛ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . .
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا ، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام ، يتم فيها تحقيق القسط والعدل ؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا . ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله ، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا ، بما فيها من نقص وهبوط ، ويرضونها ويستغرقون فيها ، فلا ينكرون فيها نقصا ، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر ؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر ، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم . والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط ، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة ، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق . إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها ! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب ، وترفع الحس ، وتحفز إلى التطلع والكمال . .
{ إن الذين لا يرجون لقاءنا } لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها . { ورضوا بالحياة الدنيا } من الآخرة لغفلتهم عنها . { واطمأنوا بها } وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها . { والذين هم عن آياتنا غافلون } لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له .
قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره ، { يرجون } في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها*** وخالفها في بيت نوب عواسل{[6024]}
وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء : إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف ، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده ، فعلى هذا التأويل معنى الآية : إن الذين لا يخافون لقاءنا ، وقال ابن زيد : هذه الآية في الكفار ، وقال بعض أهل العلم : «الرجاء » في هذه الآية على بابه ، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل ، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف ، وهذه الحال من الخوف المقارن هي الفائدة إلى النجاة ، والذي أقول : إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه ، وقوله { ورضوا بالحياة الدنيا } يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم ، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية : إذا شئت رأيت هذا الموصوف ، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن ، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه ، إذ قد يكون العاصي المجلح{[6025]} مستوحشاً من آخرته ، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر ، وقوله { واطمأنوا بها } تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها وأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره ، وقوله { والذين هم عن آياتنا غافلون } يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط{[6026]} .
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعاً بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غُلوائهم حتى يلاقوا العذاب . وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتَّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم وَالمصيرَ إليه .
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار ، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حُصول الخبر .
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن . ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا } في هذه السورة [ 15 ] .
والرجاء : ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوباً وإن كان ذلك كثيراً في كلامهم لكنه ليس بمتعيّن . فمعنى : { لا يرجون لقاءنا } لا يظنونه ولا يتوقعونه .
ومعنى : { رضوا بالحياة الدنيا } أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة ، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياةً ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها ، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها ، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة ومُلقياً في مهواة الخسران .
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدارُ التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة . وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها . وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية ، وأعلاها مقام قول النبي صلى الله عليه وسلم « فقلتُ ما لي وللدنيا » والاطمئنان : السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر ، قال تعالى : { يأيتها النفس المطئنة } [ الفجر : 27 ] . وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في سورة [ البقرة : 260 ] .
ومعنى { اطمئنوا بها } سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة ، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره .
وعن قتادة : إذا شئت رأيت هذا الموصوفَ صاحب دنيا ، لها يرضى ، ولها يغضب ، ولها يفرح ، ولها يهتم ويحزن .
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء ، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر . وإنما لم يعد الموصول في قوله : { ورضوا بالحياة الدنيا } لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } .
والمراد بالغفلة : إهمال النظر في الآيات أصلاً ، بقرينة المقام والسياق وبما تومىء إليه الصلة بالجملة الاسمية { هم عن آياتنا غافلون } الدالة على الدوام ، وبتقديم المجرور في قوله { عن آياتنا غافلون } من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية ، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عناداً ومكابرة . وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات .
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضاء صفاتهم في أذهان السامعين ، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجْل تلك الأوصاف كقوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا}، يعني لا يخشون لقاءنا، يعني البعث والحساب، {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} فعملوا لها، {والذين هم عن ءاياتنا}، يعني ما أخبر في أول هذه السورة، {غافلون}، يعني ما ذكر من صنيعه في هؤلاء الآيات لمعرضون فلا يؤمنون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضون بها عوضا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين. "وَالّذِينَ هم "عن آيات الله، وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له "غَافِلُونَ": معرضون عنها لاهون، لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلتهم عليه، ويعرفوا بها بُطول ما هم عليه مقيمون. "أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النّارُ" يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم "مأواهم" مصيرهم إلى النار نار جهنم في الآخرة. "بِمَا كَانُوا يَكْسِبونَ" في الدنيا من الآثام والإجرام ويجترحون من السيئات. والعرب تقول: «فلان لا يرجو فلانا»: إذا كان لا يخافه. ومنه قول الله جلّ ثناؤه: "ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقارا"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) قال قائلون: (لا يرجون لقاءنا) من الرجاء؛ أي لا يرجون ما وُعِد الخلق من الثواب، ولا يرغبون في ما يرجى، ويطمع من الرغائب.
وقال بعضهم: (لا يرجون لقاءنا) أي لا يخافون لقاءنا، وما من خوف إلا وفيه رجاء، وما من رجاء إلا وفيه خوف؛ لأن الخوف الذي لا رجاء فيه، هو إياس، والرجاء الذي لا خوف فيه أمن. لكن الغالب في الحسنات والخيرات الرجاء، وفيه خوف، والغالب في السيئات والشرور الخوف، وفيه أدنى الرجاء، وهو ما ذكرنا في الشكر والصبر أنهما واحد؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الشهوات واللهوات، والشكر هو استعمالها في الخيرات. فإذا كفها عن الشهوات استعملها في الخيرات.
لذلك قلنا: إنهما في الحقيقة واحد؛ لأن الشكر هو القبول، وكذلك الصبر أيضا. غير أن الشكر في قبول النعم والصبر في قبول البلايا والمصائب، والله أعلم، يصير كأنه قال: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة. وقوله تعالى: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) أي اختاروا المقام في ما عملوا بها، كأنهم مقيمون فيها أبدا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...ومعنى قوله:"ورضوا بالحياة الدنيا": قنعوا بها دون غيرها من خير الآخرة، ومن كان على هذه الصفة، فهو مذموم لانقطاعه بها عن الواجب من أمر الله.
"واطمأنوا بها" معناه ركنوا إليها على وجه التمكين فيه، فهؤلاء مكنوا لأحوال الدنيا، فصاحبها يفرح لها ويغتم لها ويرضى لها ويسخط لها. وقوله "والذين هم عن آياتنا غافلون "معناه: الذين يذهبون عن تأمل هذه الآيات ولا يعتبرون بها. والغفلة والسهو نظائر، وهو: ذهاب المعنى عن القلب بما يضاده.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لا يتوقعونه أصلاً، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحبّ العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء، أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يُخاف. {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38]. {واطمأنوا بِهَا} وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء: إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده، فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال ابن زيد: هذه الآية في الكفار،...
وقال بعض أهل العلم: «الرجاء» في هذه الآية على بابه، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف، وهذه الحال من الخوف المقارن هي الفائدة إلى النجاة، والذي أقول: إن الرجاء في كل موضع على بابه...
{واطمأنوا بها} تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها وأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره، وقوله {والذين هم عن آياتنا غافلون} يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط.
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية. واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة:
الصفة الأولى: قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا}...
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره البتة، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته. فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه؟ وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
الصفة الثانية: من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى: {ورضوا بالحياة الدنيا}.واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.
والصفة الثالثة: قوله تعالى: {واطمأنوا بها} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى: {وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية: {واطمأنوا بها} فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى...
والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن آياتنا غافلون} والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء.
وبالجملة، فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أُشير بالآية إلى انقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له، وقام الدليل القطعي على المعاد، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كان ختم تلك ب {يتقون} لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان المغرور أكثر، بدأ به تنفيراً عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن الذين} ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف: {لا يرجون لقاءنا} بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة {ورضوا} أي عوضاً عن الآخرة {بالحياة الدنيا} أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما اشتملت عليه مما يدل على حقارتها {واطمأنوا} إليها مع الرضى {بها} طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها {والذين هم} أي خاصة {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية {غافلون} أي غريقون في الغفلة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمرادُ بلقائه إما الرجوعُ إليه تعالى بالبعث أو لقاءُ الحساب كما في قوله عز وعلا: {إني ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} [الحاقة، الآية 20] وأياً ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالةِ من تهويل الأمر ما لا يخفى والمرادُ بعدم الرجاءِ عدمُ التوقعِ مطلقاً المنتظمِ لعدم الأملِ وعدمِ الخوف فإن عدمَهما لا يستدعي عدمَ اعتقادِ وقوعِ المأمولِ والخوف أي لا يتوقعون الرجوعَ إلينا أو لقاءَ حسابِنا المؤدِّي إما إلى حسن الثوابِ أو إلى سوء العذابِ فلا يأمُلون الأولَ وإليه أشير بقوله عز وجل: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} فإنه منبىءٌ عن إيثار الأدنى الخسيسِ على الأعلى النفيسِ كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة، الآية 38] ولا يخافون الثانيَ وإليه أشير بقوله تعالى: {واطمأنوا بِهَا} أي سكَنوا فيها سكونَ مَنْ لا بَراحَ له منها آمنين مِن اعتراء المزعجاتِ غيرَ مُخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا ...
وإيثارُ الباءِ على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصولِ والانتهاء للإيذان بتمام الملابسةِ ودوام المصاحبةِ والمؤانسة...
وحملُ الرجاءِ على الخوف فقط يأباه كلمةُ الرضا بالحياة الدنيا فإنها مُنبئةٌ عما ذُكر من ترك الأعلى وأخذِ الأدنى، واختيارُ صيغةِ الماضي في الصلتين الأخيرتين للدِلالة على التحقق والتقّررِ كما أن اختيارَ صيغةِ المستقبلِ في الأولى للإيذان باستمرارِ عدم الرجاء.
{والذين هُمْ عَنْ آياتنا غافلون}... وتكريرُ الموصولِ للتوسل به إلى جعل صلتِه جملةً اسميةً منبئةً عما هم عليه من استمرار الغفلةِ ودوامِها، وتنزيلُ التغايرِ الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتي إيذاناً بمغايرة الوصفِ الأخير للأوصاف الأُوَل واستقلالِه باستتباع العذابِ.
هذا وأما ما قيل من أن العطفَ إما لتغاير الوصفين والتنبيهِ على أن الوعيدَ على الجمع بين الذهولِ عن الآيات رأساً والانهماكِ في الشهوات بحيث لا يخطُر ببالهم الآخرةُ أصلاً وإما لتغاير الفريقين والمرادُ بالأولين من أنكر البعثَ ولم يُرد إلا الحياةَ الدنيا وبالآخِرين مَنْ ألهاه حبُّ العاجل عن التأمل في الآجل فكلامٌ ناءٍ عن السداد فليُتأملْ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات بيان لحال منكري البعث والغافلين، وحال المؤمنين الصالحين في الدنيا، وجزائهما في الآخرة، فيه تفصيل لما سبق في الآية الرابعة.
قال: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} قال الفيومي في المصباح: رجوته:... أملته أو أردته، قال تعالى: {لا يرجون نكاحا} [النور: 60] أي لا يريدونه...
ويستعمل بمعنى الخوف، لأن الراجي يخاف أنه لا يدرك ما يترجاه اه. وقال الراغب: الرجاء: ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وقوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح: 13] قيل ما لكم لا تخافون؟ ومثل الزمخشري في الأساس لحقيقة الرجاء بالمغفرة من الله، والرشد في الولد. والإحسان من أهل الإحسان، ثم قال: ومن المجاز استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يقال: لقيت هولا ما رجوته وما ارتجيته، ومثل له بشعر. والتحقيق أن الرجاء: الأمل والتوقع بما فيه خير ونفع، وأن الخوف توقع ما فيه شر وضر، فهما متقابلان كما قال تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 57]، وما في هذه الآية والآيتين 11 و 15 من هذه السورة والآية 21 من سورة الفرقان من رجاء لقاء الله منفيا يحتمل الرجاء والخوف جميعا؛ لأن لقاء الله تعالى في يوم الحساب مظنة الخوف لقوم والرجاء لآخرين، ولذلك قال في الكافرين {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} [النبأ: 27] وفسر بعض المحققين الرجاء هنا بمجرد التوقع الذي يشمل ما يسر وما يسوء. واللقاء الاستقبال والمواجهة.
والمعنى: إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب، وما يتلوه من الجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث، ويلزمه أنهم لا يؤملون لقاءه الخاص بالمتقين في دار الكرامة، وخصه بعضهم بلقاء الرؤية {ورَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا} بدلا من الآخرة فصار كل همهم من الحياة محصورا فيها، وكل عملهم لها، كما قال في المتثاقلين عن النفير للجهاد {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38] الآية {واطْمَأَنُّواْ بِهَا} بسكون نفوسهم وارتياح قلوبهم بشهواتها ولذاتها وزينتها ليأسهم من غيرها.
{والَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} فلا يتدبرون المنزلة منها على رسولنا وما فيها من المواعظ والعبر، والمعارف والحكم، ولا يتفكرون في الكونية وما تدل عليه من حكمته وسنته في خلقه، وما يقتضيه كل منهما من الجهاد وصالح الأعمال، فكانوا بهذه الغفلة كالفريق الأول الذي لا يرجو لقاءنا، في أن كلا منهما تشغله دنياه عن آخرته، فلا يستعد لحسابنا له، وما يتلوه من نعيم مقيم أو عذاب أليم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذين يرون كل هذا، ثم لا يتوقعون لقاء الله؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلبا يتدبر، ولا عقلا يتفكر.. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون. إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم: (إن الذين لا يرجون لقاءنا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم؛ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. دعواهم فيها سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).. إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام، يتم فيها تحقيق القسط والعدل؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا. ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا، بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصا، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم. والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق. إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب، وترفع الحس، وتحفز إلى التطلع والكمال..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعاً بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غُلوائهم حتى يلاقوا العذاب. وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتَّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم وَالمصيرَ إليه.
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حُصول الخبر.
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن. ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا} في هذه السورة [15].
ومعنى: {رضوا بالحياة الدنيا} أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياةً ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة ومُلقياً في مهواة الخسران.
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدارُ التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة. وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها. وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية، وأعلاها مقام قول النبي صلى الله عليه وسلم « فقلتُ ما لي وللدنيا» والاطمئنان: السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر، قال تعالى: {يأيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27]. وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} في سورة [البقرة: 260].
ومعنى {اطمأنوا بها} سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره.
وعن قتادة: إذا شئت رأيت هذا الموصوفَ صاحب دنيا، لها يرضى، ولها يغضب، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن. والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر. وإنما لم يعد الموصول في قوله: {ورضوا بالحياة الدنيا} لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا}.
والمراد بالغفلة: إهمال النظر في الآيات أصلاً، بقرينة المقام والسياق وبما تومئ إليه الصلة بالجملة الاسمية {هم عن آياتنا غافلون} الدالة على الدوام، وبتقديم المجرور في قوله {عن آياتنا غافلون} من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عناداً ومكابرة. وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الذين لا يرجون لقاءنا} إشارة إلى استهانتهم بأنفسهم وخالقهم، ولبيان المهابة في لقاء هذا اليوم والإشعار بأنه يوم خطير على الكافرين عسير...