ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه ، حيث قال لربه : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وهذا ظن من إبليس ، لا يقين ، لأنه لا يعلم الغيب ، ولم يأته خبر من اللّه ، أنه سيغويهم أجمعين ، إلا من استثنى ، فهؤلاء وأمثالهم ، ممن صدق عليه إبليس ظنه ، ودعاهم وأغواهم ، { فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ممن لم يكفر بنعمة اللّه ، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس .
ويحتمل أن قصة سبأ ، انتهت عند قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
ثم ابتدأ فقال : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } أي : على جنس الناس ، فتكون الآية عامة في كل من اتبعه .
ثم بين - عز وجل - الأسباب التى أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } .
ولقظ { صَدَّقَ } قرأه بعض القراء السبعة بتشديد الدال المفتوحة ، وقرأه البعض الآخر بفتح الدال بدون تشديد . وقوله : { عَلَيْهِمْ } متعلق بصدق .
وقوله { ظَنَّهُ } مفعول به على قراءة التشديد ، ومنصوب بنزع الخافض على القراءة التخفيف ، وضمير الجمع فى { عَلَيْهِمْ } وفى { فاتبعوه } يعود إلى قوم سبأ .
والمعنى على القراءة بالتشديد : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فى قدرته على إغوائهم ، وحقق ما كان يريده منهم من الانصراف عن طاعة الله - وشكره ، فاتبعوا خطوات الشيطان ، بسبب انغماسهم فى الفسوق والعصيان ، إلا فريقا من المؤمنين ، لم يستطع إبليس إغواءهم لأنهم أخلصوا عبادتهم لخالقهم - عز وجل - ، واستمسكوا بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها .
والمعنى على القراءة بالتخفيف : ولقد صدق إبليس فى ظنها ، ه إذا أغواهم اتبعوه ، لأنه بمجرد أن زين لهم المعاصى أطاعوه ، إلا فريقا من المؤمنين لم يطيعوه .
قال القرطبى ما ملخصه : وقوله : { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } نصب على الاستثناء وفيه قولان : أحدهما : أن يراد به بعض المؤمنين - فتكون من للتبعيض - ، لأنه كثيرا من المؤمنون يذنبون وينقادون لإِبليس فى بعض المعاصى .
أى : ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق ، وهو المقصود بقوله - تعالى - : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . . . } والثانى : أن المراد بهم جميع المؤمنين ، فعن ابن عباس أنه قال : هم المؤمنون كلهم .
وفي ختام القصة يخرج النص من إطار القصة المحدود ، إلى إطار التدبير الإلهي العام ، والتقدير المحكم الشامل ، والسنة الإلهية العامة ؛ ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها ، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير :
( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه . إلا فريقاً من المؤمنين . وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك . وربك على كل شيء حفيظ ) . .
لقد سلك القوم هذا المسلك ، الذي انتهى إلى تلك النهاية ، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم ، فأغواهم ، ( فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) . . كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية ؛ وتثبت أن هنالك حقاً ثابتاً يعرفه من يطلبه ؛ ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به ، حتى في أحلك الظروف
{ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك ، ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في : { صدق وعده } . لأنه نوع من القول ، وشدده الكوفيون بمعنى حق ظنه أو وجده صادقا . وقرئ بنصب { إبليس } ورفع الظن مع التشديد بمعنى وجد ظنه صادقا ، والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك أما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب ، أو سمع من الملائكة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } فقال : { لأضلنهم } و{ لأغوينهم } . { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه ، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون .
قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ولقد صدَق » بتخفيف الدال «إبليسُ » رفعاً «ظنَّه » بالنصب على المصدر ، وقيل على الظرفية ، أي في ظنه ، وقيل على المفعول على معنى أنه لما ظن عمل عملاً يصدق به ذلك الظن ، فكأنه إنما أراد أن يصدق ظنه ، وهذا من قولك أخطأت ظني وأصبت ظني ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «صدَّق » بتشديد الدال ف «الظن » على هذا مفعول ب «صدَّق » وهي قراءة ابن عباس وقتادة وطلحة [ وعاصم ]{[9651]} والأعمش ، وقرأ الزهري وأبو الهجهاج{[9652]} «ظنُّه » بالرفع ، وبلال بن أبي بردة «صدَق » بتخفيف الدال «إبليسَ » النصب «ظنُّه » بالرفع ، وقرأت فرقة «صدَق » بالتخفيف «إبليسُ » بالرفع على البدل وهو بدل الإشتمال ، ومعنى الآية أن ما قال إبليس من أنه سيفتن بني آدم ويغويهم وما قال من أن الله لا يجد أكثرهم شاكرين وغير ذلك كان ظناً منه فصدق فيهم .
وأخبر الله تعالى عنهم أنهم «اتبعوه » وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار ، وقوله { ممن هو منها في شك } يدل على ذلك و { من } في قوله { من المؤمنين } لبيان الجنس لا للتبعيض ، لأن التبعيض يقتضي أن فريقاً من المؤمنين اتبعوا إبليس ،
الأظهر أن هذا عطف على قوله : { وقال الذين كفروا هل ندلُّكم على رجل } [ سبأ : 7 ] الآية وأن ما بينهما من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير { عليهم } عائداً إلى { الذين كفروا } من قوله : { وقال الذين كفروا هل نُدلكم } الخ . والذي درج عليه المفسرون أن ضمير { عليهم } عائد إلى سبأ المتحدث عنهم . ولكن لا مفرّ من أن قوله تعالى بعد ذلك : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون اللَّه } [ سبأ : 22 ] الآيات هو عَوْد إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبا . وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها ، وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية .
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شَرَك وسوسته .
فالمعنى : أن الشيطان سوّل للمشركين أو سوّل للمُمثَّل بهم حالُ المشركين الإِشراك بالمنعم وحسَّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم فَصَدق توسُّمُه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه .
ففي قوله : { صدق عليهم إبليس ظنه } إيجاز حذف لأن صِدق الظن المفرع عنه اتَّباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانّاً استجابة دعوته إياهم .
وقرأ الجمهور { صدق } بتخفيف الدال ف { إبليس } فاعل و { ظنه } منصوب على نزع الخافض ، أي في ظنه . و { عليهم } متعلق ب { صدق } لتضمينه معنى أوقع أو ألقى ، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه . والصِدق بمعنى الإِصابة في الظن لأن الإِصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق . قال أبو الغول الطُهَوي من شعراء الحماسة :
فدتْ نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقَتْ فيهم ظنوني
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف { صدَّق } بتشديد الدال بمعنى حقّق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لمّا وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجدّ في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم .
وفي ( على ) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم .
وقوله : { فاتبعوه } تفريع وتعقيب على فعل { صدق عليهم إبليس ظنه } أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإِشراك والكفران .
و { إلا فريقاً } استثناء من ضمير الرفع في { فاتبعوه } وهو استثناء متصل إن كان ضمير « اتبعوه » عائداً على المشركين وأما إن كان عائداً على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع ، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة ، أو الذين آمنوا من أهل سبا . فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم .
والفريق : الطائفة مطلقاً ، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية ، وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى :
{ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [ الأعراف : 30 ] .
والتعريف في { المؤمنين } للاستغراق و { مِن } تبعيضية ، أي إلا فريقاً هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} وذلك أن إبليس خلق من نار السموم، وخلق آدم من طين، ثم قال إبليس: إن النار ستغلب الطين، فقال: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك} الآية، فمن ثم صدق بقول الله عز وجل: {فاتبعوه}، ثم استثنى عباده المخلصين، فقال جل وعز: {إلا فريقا} طائفة {من المؤمنين} لم يتبعوه في الشرك، وهم الذين قال الله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر:42].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنّهُ"؛ فقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "وَلَقَدْ صَدّقَ "بتشديد الدال من صَدّق، بمعنى أنه قال ظنا منه: "وَلا تَجِد أَكَثرَهُمْ شاكِرِينَ" وقال: "فَبِعِزّتِكَ لأُغَوْيَنّهُمْ أجَمعِينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ" ثم صدّق ظنه ذلك فيهم، فحقّق ذلك بهم، وباتباعهم إياه. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والشأم والبصرة «وَلَقَدْ صَدَقَ» بتخفيف الدال، بمعنى: ولقد صدق عليهم ظنه.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى وذلك أن إبليس قد صدَق على كفرة بني آدم في ظنه، وصدق عليهم ظنّه الذي ظنّ حين قال: "ثُمّ لآتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ"، وحين قال: "وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ..." الآية، قال ذلك عدوّ الله، ظنا منه أنه يفعل ذلك لا علما، فصار ذلك حقا باتباعهم إياه، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام على قراءة من قرأ بتشديد الدال: ولقد ظنّ إبليس بهؤلاء الذين بدّلناهم بجنّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط، عقوبة منا لهم، ظنا غير يقين، علم أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، فصدق ظنه عليهم، بإغوائه إياهم، حتى أطاعوه، وعصوا ربهم، إلا فريقا من المؤمنين بالله، فإنهم ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
صدَّق عليهم إبليس ظنّه -وإنْ كان لا يملك لنفسه أمراً، فإبليس مُسَلِّطٌ على أتباعه من الجنِّ والإِنس، وليس به من الإضلال شيء، ولو أمكنه أَن يَضُرَّ غيرَه لأمكنه أن يمسك على الهداية نَفْسَه، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإِسراء: 65].
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) يعني: إلا كل المؤمنين، هكذا قاله أكثر أهل التفسير؛ لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين، وقد قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يعني: المؤمنين، وعن بعضهم: إلا فريقا من المؤمنين: خواص المؤمنين؛ وهم الذين يطيعون الله ولا يعصونه.
قال الحسن البصري: والله إنه لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط، وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا.
يمكن أن يقال: صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه: {أنا خير منه} ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه، لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر، هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عنادا كفر، والمشرك يعبد غير الله فهو كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، وهم كفروا بأمر هو الإشراك، ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء، وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل، بدليل أنه تعالى قال عنه: {إلا عبادك منهم المخلصين} فما ظن أنه يغوي المؤمنين، فما ظنه صدقه، ولا حاجة إلى الاستثناء.
وأما في قوله: {أنا خير منه} اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين، ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول، وهو أنه وإن لم يظن إغواء الكل وعلم أن البعض ناج، لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي، إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟... جواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك "[الإسراء: 64] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تاب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" [الحجر: 42] علم أن له تبعا ولآدم تبعا، فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد} أي كان في ذلك آيات مانعة من اتباع الشيطان والحال أنه قد {صدق}.
ولما كان في استغوائهم غالباً لهم في إركابهم ما تشهد عقولهم بأنه ضلال، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي على ذرية آدم عليه السلام.
ولما كان في سياق الإثبات لعظمة الله وما عنده من الخير وما له من التصرف التام الداعي ذلك إلى الإقبال إليه وقصر الهمم عليه، عبر بقوله تعالى {إبليس} الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده -والإبلاس- وهو اليأس من كل خير -ليكون ذلك أعظم في التبكيت والتوبيخ.
{ظنه} أي في قوله: {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} [الإسراء: 62]... فكأنه لما قال ذلك على سبيل الظن تقاضاه ظنه الصدق، فصدقه في إعمال الحيلة حتى كان ذلك الظن قوله: {فاتبعوه} أي بغاية الجهد بميل الطبع والاستلذاذ الموجب للنزوع والترامي بعضهم في الكفران وبعضهم في مطلق العصيان.
{من المؤمنين} أي العريقين في الإيمان، فكانوا خالصين لله مخلصين في عبادته، وأما غيرهم فمالوا معه، وكان منهم المقل ومنهم المكثر بالهفوات والزلات الصغائر والكبائر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ختام القصة يخرج النص من إطار القصة المحدود، إلى إطار التدبير الإلهي العام، والتقدير المحكم الشامل، والسنة الإلهية العامة؛ ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير.
لقد سلك القوم هذا المسلك، الذي انتهى إلى تلك النهاية، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم، فأغواهم، (فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين).. كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية؛ وتثبت أن هنالك حقاً ثابتاً يعرفه من يطلبه؛ ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به، حتى في أحلك الظروف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شَرَك وسوسته. فالمعنى: أن الشيطان سوّل للمشركين، أو سوّل للمُمثَّل بهم حالُ المشركين، الإِشراك بالمنعم وحسَّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه، وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم، فَصَدق توسُّمُه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه.
والصِدق بمعنى الإِصابة في الظن لأن الإِصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق وفي (على) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم. والفريق: الطائفة مطلقاً، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية، وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} [الأعراف: 30].
والتعريف في {المؤمنين} للاستغراق و {مِن} تبعيضية، أي إلا فريقاً هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان.