ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم :
( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل !
وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب :
و «الأحقاب » : جمع حقب بفتح القاف ، وحِقب : بكسر الحاء ، وحقُب : بضم القاف ، وهو جمع حقبة ومنه قول متمم : [ الطويل ]
وكنا كندماني جذيمة حقبة . . . من الدهر حتى قيل لن تصدعا{[11573]}
وهي المدة الطويلة من الدهر{[11574]} غير محدودة ، ويقال للسنة أيضاً حقبة ، وقال بشر بن كعب{[11575]} : حدها على ما ورد في الكتب المنزلة ثلاثمائة سنة ، وقال هلال الهجري : ثمانون سنة قالا في كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً ، كل يوم من ألف سنة ، وقال ابن عباس وابن عمر : الحقب ستون ألف سنة ، وقال الحسن : ثلاثون ألف سنة وقال أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ثلاثون ألف سنة{[11576]} ، وكثر الناس في هذا اللازم أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون { أحقاباً } كلما مر حقب جاء غيره إلى ما لا نهاية ، قال الحسن : ليس لها عدة إلا الخلود في النار ، ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم فطلبوا التأويل لذلك ، فقال مقاتل بن حيان{[11577]} : الحقب سبعة عشر ألف سنة ، وهي منسوخة بقوله تعالى :
{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً }{[11578]} [ النبأ : 30 ] ، وقد ذكرنا فساد هذا القول{[11579]} ، وقال آخرون الموصوفون باللبث { أحقاباً } عصاة المؤمنين ، وهذا أيضاً ضعيف ما بعده في السورة يدل عليه ، وقال آخرون : إنما المعنى : { لابثين فيها أحقاباً } غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم ، وقرأ الجمهور «لابثين » وقرأ حمزة وحده وابن مسعود وعلقمة وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل{[11580]} وابن جبير «لبثن » جمع لبث ، وهي قراءة معترضة لأن فعلاً إنما يكون فيما صار خلقاً كحذر وفرق ، وقد جاء شاذاً فيما ليس بخلق وأنشد الطبري وغيره في ذلك بيت لبيد : [ الكامل ]
أو مسحل عمل عضادة سمحج . . . بسراته ندب له وكلوم{[11581]}
قال المعترض في القراءة : لا حجة في هذا البيت لأن عملاً قد صار كالخلق الذي واظب على العمل به حتى أنه ليسمى به في وقت لا يعمل فيه كما تقول كاتب لمن كانت له صناعة وإن لم يكتب أكثر أحيانه ، قال المحتج لها : شبه لبث بدوامه بالخلق لما صار اللبث من شأنه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"لابِثِينَ فِيها أحْقابا "يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم، فماكثون فيها أحقابا...
وأما الأحقاب فجمع حُقْب، والحِقَب: جمع حِقْبة...
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحُقُب...
عن سالم، قال: سمعت الحسن يُسْألُ عن قول الله: "لابِثِينَ فِيها أحْقابا" قال: أما الأحقاب فليس لها عدّة إلاّ الخلود في النار...
[عن] الربيع وقتادة قالا: إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقابا، في هذا النوع من العذاب، هو أنهم: "لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا إلاّ حَمِيما وغَسّاقا" فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك، كما قال جلّ ثناؤه في كتابه: "وَإنّ للطّاغِينَ لَشَرّ مآبٍ جَهَنّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المِهادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَميمٌ وغَسّاقٌ وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ" وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم: هو اسم للزمان والدّهر وليس له حدّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {أَحْقَاباً} حقباً بعد حقب، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها، والاشتقاق يشهد لذلك
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأحقاب: جمع حُقُب بضمتين، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة، وتقدم في قوله: {أو أمضي حقباً} في سورة الكهف (60).
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحُقُب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يُحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدِّين في أعمالهم.