اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا} (23)

قوله : { لاَّبِثِينَ } . منصوب على الحال من الضمير المستتر في«للطاغين » ، وفي حال مقدرة .

وقرأ حمزة{[59137]} : «لبثين » دون ألف .

والباقون : «لابثين » بألف .

وضعف مكي قراءة حمزة ، قال : ومن قرأ : «لبثين » شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق ، وهو بعيد ؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان . وليس اللبس بخلقة .

ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة ، فقال : «قرأ : لابثين «ولبثين » واللبث أقوى ؛ لأن اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه » .

وما قاله الزمخشري أصوب .

وأمَّا قولُ مكيٍّ : اللبث ليس بخلقة ، فمسلم لكنه بولغ في ذلك ، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة .

و«لابثين » اسم فاعل من «لبث » ، ويقويه أنَّ المصدر منه «اللّبث » - بالإسكان - ك «الشرب » . قوله : «أحْقَاباً » منصوب على الظرف ، وناصبه «لاَبِثيْنَ » ، هذا هو المشهور ، وقيل : منصوب بقوله : «لا يذوقون » ، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد «لا » عليها وهو أحد الأوجه ، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال . قال : «وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق ، فهو حقبٌ وجمعه : «أحْقَاب » ، فينتصب حالاً عنهم ، بمعنى : لابثين فيها حقبين جحدين » . وتقدم الكلام على الحقب في سورة «الكهف »{[59138]} .

قال القرطبي{[59139]} : و«الحِقْبَةُ » - بالكسر- : السَّنة ، والجمع حِقَب ؛ قال متممُ بنُ نويرةَ : [ الطويل ]

5075- وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً *** مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ : لَنْ يتصدَّعا{[59140]}

والحُقْبُ - بالضم والسكون - : ثمانون سنة .

وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، والجمع : «أحْقَاب » .

قال الفراءُ : أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع ، يقال : «أحْقَبَ » : إذا أردف ، ومنه الحقبة ، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب ، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقاباً ، أي : دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً .

فصل في تحرير معنى الآية

المعنى : ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ ، و«الحُقُبُ » -بضمتين- : الدَّهْرُ ، والأحقابُ : الدهور ، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها ، إذ في الكلام ذكر الآخرة ، كما يقال : أيَّامُ الآخرة ، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، أي : لابثين فيها أزماناً ودهوراً ، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبداً من غير انقطاع ، فكأنه قال : أبداً ، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب ، أو عشرة ونحوه ، وذكر الأحقاب ؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فذكر ما يفهمونه ، وهو كناية عن التأبيد ، أي : يمكثون فيها أبداً .

وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود ، وهذا الخلود في حق المشركين ، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب .

وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب ، ولهذا قال تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون


[59137]:ينظر: السبعة 669، والحجة 6/369، وإعراب القراءات 2/431، وحجة القراءات 745.
[59138]:الآية: 60.
[59139]:الجامع لأحكام القرآن 19/116.
[59140]:ينظر شعر متمم بن نويرة ص 111، والمفضليات ص 535، والقرطبي 19، 116، ومجمع البيان 10/641.