مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا} (23)

وثالثها : قوله : { لابثين فيها أحقابا } اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين ، وبين كمية استقرارهم هناك ، فقال : { لابثين فيها أحقابا } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قرأ الجمهور : { لابثين } وقرأ حمزة لبثين وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث ، مثل طامع ، وطمع ، وفاره ، وفره ، وهو كثير ، وقال صاحب الكشاف : واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، وهو أن يستقر في المكان ، ولا يكاد ينفك عنه .

المسألة الثانية : قال الفراء أصل الحقب من الترادف ، والتتابع يقال أحقب ، إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزرا ، فقد احتقب ، فيجوز على هذا المعنى : { لابثين فيها أحقابا } أي دهورا متتابعة يتبع بعضها بعضا ، ويدل عليه قوله تعالى : { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا } يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس ، واعلم أن الأحقاب ، واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة ، والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه : ( أحدها ) : قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله : { أحقابا } الحقب الواحد بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلثمائة وستون يوما ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعا ( وثانيها ) : سأل هلال الهجري عليا عليه السلام .

فقال الحقب مائة سنة ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والشهر ثلاثون يوما ، واليوم ألف سنة ( وثالثها ) : قال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون : ( فإن قيل ) قوله أحقابا وإن طالت إلا أنها متناهية ، وعذاب أهل النار غير متناه ، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال واردا ، ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة : { إلا ما شاء ربك } قلنا : ( الجواب ) من وجوه : ( الأول ) : أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا كلما مضى حقب تبعه حقب آخر ، وهكذا إلى الأبد ( والثاني ) : قال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون في الأحقاب بردا ولا شرابا ، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب ، وهو أن لا يذوقوا بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب ( وثالثها ) : هب أن قوله : { أحقابا } يفيد التناهي ، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم ، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون . قال تعالى : { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } ولا شك أن المنطوق راجح ، وذكر صاحب «الكشاف » في الآية وجها آخر ، وهو أن يكون أحقابا من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب . فينتصب حالا عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين وقوله : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } تفسير له .