المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا} (23)

و «الأحقاب » : جمع حقب بفتح القاف ، وحِقب : بكسر الحاء ، وحقُب : بضم القاف ، وهو جمع حقبة ومنه قول متمم : [ الطويل ]

وكنا كندماني جذيمة حقبة . . . من الدهر حتى قيل لن تصدعا{[11573]}

وهي المدة الطويلة من الدهر{[11574]} غير محدودة ، ويقال للسنة أيضاً حقبة ، وقال بشر بن كعب{[11575]} : حدها على ما ورد في الكتب المنزلة ثلاثمائة سنة ، وقال هلال الهجري : ثمانون سنة قالا في كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً ، كل يوم من ألف سنة ، وقال ابن عباس وابن عمر : الحقب ستون ألف سنة ، وقال الحسن : ثلاثون ألف سنة وقال أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ثلاثون ألف سنة{[11576]} ، وكثر الناس في هذا اللازم أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون { أحقاباً } كلما مر حقب جاء غيره إلى ما لا نهاية ، قال الحسن : ليس لها عدة إلا الخلود في النار ، ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم فطلبوا التأويل لذلك ، فقال مقاتل بن حيان{[11577]} : الحقب سبعة عشر ألف سنة ، وهي منسوخة بقوله تعالى :

{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً }{[11578]} [ النبأ : 30 ] ، وقد ذكرنا فساد هذا القول{[11579]} ، وقال آخرون الموصوفون باللبث { أحقاباً } عصاة المؤمنين ، وهذا أيضاً ضعيف ما بعده في السورة يدل عليه ، وقال آخرون : إنما المعنى : { لابثين فيها أحقاباً } غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم ، وقرأ الجمهور «لابثين » وقرأ حمزة وحده وابن مسعود وعلقمة وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل{[11580]} وابن جبير «لبثن » جمع لبث ، وهي قراءة معترضة لأن فعلاً إنما يكون فيما صار خلقاً كحذر وفرق ، وقد جاء شاذاً فيما ليس بخلق وأنشد الطبري وغيره في ذلك بيت لبيد : [ الكامل ]

أو مسحل عمل عضادة سمحج . . . بسراته ندب له وكلوم{[11581]}

قال المعترض في القراءة : لا حجة في هذا البيت لأن عملاً قد صار كالخلق الذي واظب على العمل به حتى أنه ليسمى به في وقت لا يعمل فيه كما تقول كاتب لمن كانت له صناعة وإن لم يكتب أكثر أحيانه ، قال المحتج لها : شبه لبث بدوامه بالخلق لما صار اللبث من شأنه .


[11573]:متمم بن نويرة كان له أخ اسمه مالك بن نويرة، وهو الذي قتله خالد بن الوليد في حروب الردة، وتزوج امرأته، وقتل من قومه مقتلة عظيمة، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت عمر بن الخطاب يسخط على خالد، ويوم أن استشهد زيد بن الخطاب في حرب مسيلمة قال عمر رضي الله عنه لمتمم بن نويرة: أنشدني بعض ما قلت في أخيك مالك، فأنشده شعره الذي يقول فيه: فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وأراد بندماني جذيمة "مالكا وعقيلا" ابني فارج بن كعب، فقد نادما جذيمة الأبرش حين ردا عليه ابن أخته "عمرو بن عدي" فحكمهما فاختارا منادمته، فكانا نديميه فترة من الزمن،ثم غدر بهما وقتلهما، ولما أنشد متمم شعره لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عمر: يا متمم لو كنت أقول الشعر لسرني أن أقول في اخي زيد بن الخطاب مثل ما قلت في أخيك، قال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما قلت فيه شعرا أبدا، قال عمر: يا متمم، ما عزاني أحد في أخي بأحسن مما عزيتني به، وذلك أن زيد بن الخطاب قتل شهيدا في يوم اليمامة، أما مالك ابن نويرة فقد قتل مرتدا عن الإسلام.
[11574]:في بعض النسخ: "من السنة".
[11575]:الذي في الدر المنثور "بشير بن كعب".
[11576]:أخرجه ابن عمر العدني في مسنده، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، بسند ضعيف، عن أبي أمامة (الدر المنثور).
[11577]:هو مقاتل بن حيان، النبطي –بفتح النون والباء- أبو بسطام البلخي الخزاز، قال عنه في (تقريب التهذيب): "صدوق فاضل، أخطأ الأزدي في زعمه أن وكيعا كذبه، وإنما كذب الذي بعده ، مات قبل الخمسين بأرض الهند".
[11578]:هي الآية 3 من هذه السورة النبأ.
[11579]:عندما قال في بداية تفسير هذه السورة: "لأن الأخبار لا تنسخ".
[11580]:أما ابن ميمون فهو عمرو بن ميمون بن مهران الجزري، أبو عبد الله، سبط سعيد بن جبير، ثقة فاضل، مات سنة سبع وأربعين، وأما ابن شرحبيل فهو عمرو بن شرحبيل ابن سعيد، بن سعد بن عبادة الأنصاري. (تقريب التهذيب).
[11581]:البيت في وصف حمار الوحش، وهو في الديوان، واللسان، والطبري، ومعاني القرآن، والمسحل: الحمار الوحشي، وهي صفة غالبة، وسمى بذلك لأن نهيقة يسمى السحيل، وعمل – بوزن فرح- : وصف له: وهي بمعنى عامل، ويروى: (سنح) –بمعنى بشم- ويروى أيضا (شنج) –بمعنى ملازم للأتان-، أما العضادة فهي ما يكون بجانب الشيء ويكون عونا له، فهي هنا بمعنى لأنه بجانب أنثاه وهو عون لها ومرافق، والسمحج: الأتان الطويلة الظهر، وسراتها وسط ظهرها، وندب: جمع ندبة، وهي أثر الجرح، والكلوم: الجروح ومفردها كلم. يريد أن هذا الحمار يرافق أنثاه دائما وهو كثير العض لها حتى امتلأ ظرها بالجروح وآثارها.والشاهد كما قال الفراء أن الشاعر أوقع (عمل) على (عضادة)، قال: ولو كان (عاملا) لكان أفضل.