143- ولما جاء لمناجاتنا ، وكلَّمه ربه تكليما ليس كتكليمنا ، قال رب أرني ذاتك ، وتجلَّ لي أنظر إليك فأزداد شرفا ، قال : لن تطيق رؤيتي . ثم أراد سبحانه أن يقنعه بأنه لا يطيقها فقال : لكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك ، فإن ثبت مكانه عند التجلي فسوف تراني إذا تجليت لك . فلما ظهر ربه للجبل على الوجه اللائق به تعالى ، جعله مفتتا مستويا بالأرض ، وسقط موسى مغشياً عليه لهول ما رأي ، فلما أفاق من صعقته قال : أنزهك يا رب تنزيها عظيما عن أن تُرى في الدنيا ، إني تبت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن ، وأنا أول المؤمنين في زماني بجلالك وعظمتك .
{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } الذي وقتناه له لإنزال الكتاب { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه ، تشوق إلى رؤية اللّه ، ونزعت نفسه لذلك ، حبا لربه ومودة لرؤيته .
ف { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ } اللَّهِ { لَنْ تَرَانِي } أي : لن تقدر الآن على رؤيتي ، فإن اللّه تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ، ولا يثبتون لرؤية اللّه ، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة ، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وأنه ينشئهم نشأة كاملة ، يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى ، ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل ، فقال - مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية - { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } إذا تجلى اللّه له { فَسَوْفَ تَرَانِي } .
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } الأصم الغليظ { جَعَلَهُ دَكًّا } أي : انهال مثل الرمل ، انزعاجا من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها{[327]} { وَخَرَّ مُوسَى } حين رأى ما رأى { صَعِقًا } فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه ، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك ، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال ، الذي لم يوافق موضعا و[ لذلك ]{[328]} { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : تنزيها لك ، وتعظيما عما لا يليق بجلالك { تُبْتُ إِلَيْكَ } من جميع الذنوب ، وسوء الأدب معك { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه ، بما كمل اللّه له مما كان يجهله قبل ذلك ، فلما منعه اللّه من رؤيته - بعدما ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال :
ثم حكى القرآن ما كان من موسى عندما وصل إلى طور سيناء لمناجاة ربه فقال : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أى : وحين حضر موسى لموقتنا الذي وقتناه له وحددناه ، وكلمه ربه ، أى : خاطيه من غير واسطة ملك { قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } أى : قال موسى حين كلمه ربه وسمع منه : رب أرنى ذاتك الجليلة . والمراد مكنى من رؤيتك .
و { أرني } فعل أمر مبنى على حذف الياء . وياء المتكلم مفعول ، والمفعول الثانى محذوف أى : ذاتك أو نفسك ولم يصرح به لأنه معلوم ، وزيادة في التأدب مع الخالق - عز وجل - .
وجملة { قَالَ لَن تَرَانِي } أى : لن تطيق رؤيتى ، وأنت في هذه النشأة وعلى الحالة التي أنت عليها في هذه الدنيا فنفى الرؤية منصب على الحالة الدنيوية ، أما في الآخرة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات .
ثم قال - تعالى - { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } أى : لن تطيق رؤيتى يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا ، ولكن انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك ، فإن استقر مكانه أى ثبت مكانه حيت أتجلى له لوم يتفتت من هذا التجلى ، فسوف ترانى أى تثبت لرؤيتى إذا تجليت لك وإلا فلا طاقة لك برؤيتى .
وفى هذا الاستدراك { ولكن انْظُرْ } . . . الخ ، تسلية لموسى - عليه السلام - وتلطف معه في الخطاب ، وتكريم له ، وتعظيم لأمر الرؤية ، وأنه لا يقوى عليها إلا من قواه الله بمعونته .
ثم بين - سبحانه - ما حدث للجبل عند التجلى فقال : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } أى : فحين ظهر نوره - سبحانه - للجبل على الوجه اللائق بجلاله { جَعَلَهُ دَكّاً } أى مدقوقا مفتتا ، فنبه - سبحانه - بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته ما دام لم يستقر عند هذا التجلى ، فالآدمى مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر . والدك والدق بمعنى ، وهو تفتيت الشىء وسحقه وفعله من باب رد .
قال الآلوسى : وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم ، أو التأويل بما يليق بجلال ذاته - تعالى - .
وقوله { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } أى : سقط من هول ما رأى من النور الذي حصل به التجلى مغشيا عليه ، كمن أخذته الصاعقة .
يقال : صعقتهم السماء تصعقهم صعقا فهو صعق أى : غشى عليه .
وقوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } أى : فلما أفاق موسى من غشيته ، وعاد إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يخر مغشيا عليه ، قال تعظيما لأمر الله { سُبْحَانَكَ } أى تنزيها لك من مشابهة خلقك في شىء { تُبْتُ إِلَيْكَ } من الإقدام على السؤال بغير إذن { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بعظمتك وجلالك أو وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد .
قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون : ولكن يقول أنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة . قال ابن كثير : وهو قول حسن .
هذا ، وقد توسع بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآية في الحديث عن رؤية الله - تعالى - وعلى رأس هذا البعض الإمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - : " واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته - سبحانه - بهذه الآية على جوازها في الجملة ، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك ، وقامت الحرب بينهما على ساق ، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا : إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين .
الأول : أن موسى - عليه السلام - سألها بقوله { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عالما بالاستحالة فالعالم - فضلا عن النبى مطلقا ، فضلا عمن هو من أولى العزم - لا يسأل المحال ولا يطلبه . وإن لم يكن عالما بذلك ، لزم أن يكون آحاد المعتزلة أعلم بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبى الصفى ، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة و حيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز .
والثانى : أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في ذاته وما علق على الممكن ممكن " .
ثم قال ما ملخصه : واعترض الخصوم على الوجه الأول بوجوه منها أنا لا نسلم أن موسى سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضرورى به - تعالى - إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازاً . أو أنه سأل رؤية علم من أعلامه الساعة بطريق حذف المضاف ، أى : أرنى أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة . أو أنه سأل الرؤية لا لنفسه ولكن لدفع قومه القائلين { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأدنى على الأعلى .
واعترضوا على الوجه الثانى بأنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن ، لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ، لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا ، بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته .
ثم أورد الآلوسى بعد ذلك ما رد به كل فريق على الآخر مما لا مجال لذكره هنا .
والذى نراه أن رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك ، أما في الدنيا فقد منع العلماء وقوعها ، وقد بينا ذلك بشىء من التفصيل عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار }
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع . المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى - عليه السلام - مشهد الخطاب المباشر بين الجليل - سبحانه - وعبد من عباده . المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة ؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي ، وهو بعد على هذه الأرض . . ولا ندري نحن كيف . . لا ندري كيف كان كلام الله - سبحانه - لعبده موسى . ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله . فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة ؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة . ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء . ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية ، نريد أن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود !
( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك . قال : لن تراني ، ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني . فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، وخر موسى صعقاً . فلما أفاق قال : سبحانك ! تبت إليك وأنا أول المؤمنين . قال : يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي . فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . سأريكم دار الفاسقين . سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ )
إننا لفي حاجة إلى استحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله . . في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره ؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه . .
( ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه ، قال : رب أرني أنظر إليك ) . .
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه ؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق ! فينسى من هو ، وينسى ما هو ، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض ، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض . . يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود . . حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة :
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل ، فيعلمه لماذا لن يراه . . إنه لا يطيق . .
( ولكن انظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني ) . .
والجبل أمكن وأثبت . والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري . . ومع ذلك فماذا ؟
( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .
فكيف كان هذا التجلي ؟ نحن لا نملك أن نصفه ، ولا نملك أن ندركه . ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله ، حين تشف أرواحنا وتصفو ، وتتجه بكليتها إلى مصدرها . فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً . . لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي . . ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره ؛ وليس منها رواية عن المعصوم [ ص ] والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً .
( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ) . .
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسًّوى بالأرض مدكوكاً . . وأدركت موسى رهبة الموقف ، وسرت في كيانه البشري الضعيف :
مغشياً عليه ، غائباً عن وعيه .
وثاب إلى نفسه ، وأدرك مدى طاقته ، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله :
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك .
والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم و جلاله ، وبما ينزله عليهم من كلماته . . وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا ، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى .
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } لو قتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا . { وكلّمه ربه } من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . { قال رب أرني أنظر إليك } أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو يتجلى لي فأنظر إليك وأراك . وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لان طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : { لن تراني } دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليّ ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : { أرنا الله جهرة } خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : { اجعل لنا إلها } ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه { ولا تتبع سبيل المفسدين } والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية . { قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو جبل زبير . { فلما تجلّى ربه للجبل } ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره . وقيل أعطى
له حياة ورؤية حتى رآه . { جعله دكّاً } مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق ، وقرأ حمزة والكسائي " دكاء " أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها . وقرئ { دكا } أي قطعا جمع دكاء . { وخرّ موسى صعقا } مغشيا عليه من هول ما رأى . { فلما أفاق قال } تعظيما لما رأى . { سبحانك تبت إليك } من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن . { وأنا أول المؤمنين } مر تفسيره . وقيل معناه أنا أول من أمن بأنك لا ترى في الدنيا .
ثم أخبر الله تعالى عن «موسى » عليه السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حد له وفي الوقت الذي عين له وكلمه ربه قال تمنياً منه أي { رب أرني أنظر إليك } وقرأ الجمهور : { أرِني } بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير { أرْني } بسكون الراء ، والمعنى في قوله { كلمه } أي خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : أدنى الله تعالى «موسى » حتى سمع صريف الأقلام في اللوح ، وكلام الله عز وجلّ لا يشبه شيئاً من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات وما هو موجود لا كالموجودات ، ومعلوم لا كالمعلومات ، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث ، والواو عاطفة { كلمه } على { جاء } ، ويحتمل أن تكون واو الحال والأول أبين ، وقال وهب بن منبه كلم الله «موسى » في ألف مقام كان يرى نور على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام ، وما قرب «موسى » النساء منذ «كلمة » الله تعالى ، وجواب { لما } في قوله { قال } ، والمعنى أنه لما «كلمه » وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشويق إلى ذلك ، فسأل ربه أن يريد نفسه ، قاله السدي وأبو بكر الهذلي ، وقال الربيع : قربناه نجياً حتى سمع صريف الأقلام ، ورؤية الله عز وجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً ، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته ، قالوا لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود ، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تعالى في الآخرة نصاً ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع ، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالاً وإنما سأل جائزاً .
وقوله تعالى : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل } الآية ليس بجواب من سأل محالاً ، وقد قال تعالى لنوح { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } فلو سأل «موسى » محالاً لكان في الكلام زجر ما وتبيين ، وقوله عز وجل : { لن تراني } نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا ، و { لن } تنفي الفعل المستقبل ولو بقينا مع هذا النفي بمجردة لقضينا أنه لا يراه «موسى » أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة ، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته ، وقال مجاهد وغيره : إن الله عز وجل قال لموسى لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فستمكنك أنت رؤيتي .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً وقالت فرقة : إنما المعنى سأتبدى لك على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني ، وروي في كيفية وقوف «موسى » وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه .
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ }
قال المتأولون المتكلمون كالقاضي الباقلاني وغيره : إن الله عز وجل خلق للجبل حياة وحساً وإدراكاً يرى به ، ثم تجلى له أي ظهر وبدا سلطانه فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق ، وهذا المعنى هو المروي عن ابن عباس ، وأسند الطبري عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً } قال : فوضع الإبهام قريباً عن خنصره قال فساخ الجبل ، فقال حميد لثابت : تقول هذا ؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس ، وأكتمه أنا ؟ وقالت فرقة : المعنى فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يتمسك به المعتزلة تمسكاً شديداً لقولهم إن رؤية الله عز وجل غير جائزة ، وقائله من أهل السنة إنما يقوله مع اعتقاده جواز الرؤية ولكنه يقول إنه أليق بألفاظ الآية من أن تحمل الآية أن الجبل خلق له إدراك وحياة ، وقال الزّجاج : من قال إن التقدير فلما تجلى أمر ربه فقد أخطأ ولا يعرف أهل اللغة ذلك ، ورد أبو علي في الإغفال عليه ، والدك الانسحاق والتفتت ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر «دكاً » ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عباس والربيع بن خثيم وغيرهم «دكاء » على وزن حمراء ، والدكاء : الناقة التي لا سنام لها ، فالمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة ، فروي أنه ذهب الجبل بجملته ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أكثره ، وروي أن الجبل تفتت وانسحق حتى صار غباراً تذروه الرياح ، وقال سفيان : روي أنه ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وروي أنه انكسر ست فرق فوقعت منه ثلاث بمكة ثبير وغار ثور وحراء ، وثلاث بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، قاله النقاش ، وقال أبو بكر الهذلي : ساخ في الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة ، و { صعقاً } معناه مغشياً عليه كحال من تصيبه الصعقة وهي الصيحة المفرطة ، قال الخليل : وهي الوقع الشديد من صوت الرعد قاله ابن زيد وجماعة من المفسرين ، وقال قتادة : كان موتاً ، قال الزجّاج : وهو ضعيف ، ولفظة { أفاق } تقتضي غير هذا ، وقوله { سبحانك } أي تنزيهاً لك ، كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { تبت إليك } معناه من أن أسألك الرؤية في الدنيا وأنت لا تبيحها .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدة هول ما اطلع ولم يعن به التوبة من شيء معين ولكنه لفظ يصلح لذلك المقام .
قال القاضي أبو محمد : والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة ، وقرأ نافع { وأنا } بإثبات الألف في الإدراج ، قال الزهراوي والأولى حذفها في الإدراج وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس ، وقوله { أول } إما أن يريد من قومه بني إسرائيل ، وهو قول ابن عباس ومجاهد أو من أهل زمانه ان كان الكفر قد طبق الآفاق وإما أن يريد أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا ، قاله أبو العالية .