ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم :
( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل !
وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب :
وقوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهي جمع " حقُب " ، وهو : المدة من الزمان . وقد اختلفوا في مقداره . فقال ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مِهْران ، عن سفيان الثوري ، عن عَمَّار الدّهنِي ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري : ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة{[29654]} .
وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة ، وعبد الله بن عَمرو ، وابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، وعَمرو بن ميمون ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والضحاك . وعن الحسن والسّدي أيضا : سبعون سنة كذلك . وعن عبد الله بن عمرو : الحُقبُ أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون . رواهما ابن أبي حاتم .
وقال بُشَير{[29655]} بن كعب : ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا{[29656]} ، كل يوم منها كألف سنة . رواه ابن جرير{[29657]} ، وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ{[29658]} : حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا }
قال : فالحقب [ ألف ]{[29659]} شهر ، الشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة{[29660]} . وهذا حديثٌ منكر جدًا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك .
وقال البزار : حدثنا محمد بن مِرْدَاس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال : سألت سليمان التيمي : هل يخرج من النار أحد ؟ فقال حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا " . قال : والحُقْب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون{[29661]} .
ثم قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور .
وقال السّدي : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } سبعمائة حُقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم كألف سنة مما تعدون .
وقد قال مقاتل بن حَيّان : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا }
وقال خالد بن مَعْدان : هذه الآية وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ] في أهل التوحيد . رواهما ابن جرير .
ثم قال : ويحتمل أن يكون قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } متعلقًا بقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر . ثم قال : والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما قال قتادة والربيع بن أنس . وقد قال قبل ذلك .
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال : أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون .
وقال سعيد ، عن قتادة : قال الله تعالى : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وهو : ما لا انقطاع له ، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة .
وقال الربيع بن أنس : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون . رواهما أيضا ابن جرير{[29662]} .
واللابث : المقيم بالمكان . وانتصب { لابثين } على الحال من الطاغين .
وقرأه الجمهور { لابثين } على صيغة جمع لابث . وقرأه حمزة ورَوح عن يعقوب { لَبثين على صيغة جَمْع ( لَبثٍ ) من أمثلة المبالغة مثل حَذِر على خلاف فيه ، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللّبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه .
وأحقاب : جمع حُقُب بضمتين ، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة ، وتقدم في قوله : { أو أمضي حقباً } في سورة الكهف ( 60 ) .
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحُقُب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين ، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء .
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يُحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين ، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدِّين في أعمالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.