110- ثم اعلم - أيها النبي - أن ربك مُعين وناصر للذين هاجروا من مكة فرارا بدينهم من الضغط ، وبأنفسهم من عذاب المشركين ، ثم جاهدوا بما يملكون الجهاد به من قول أو فعل ، وصبروا على مشاق التكاليف ، وعلى ما يلاقونه في سبيل دينهم ، إن ربك من بعد ما تحملوا ذلك لغفور لما حصل منهم إن تابوا ، رحيم بهم فلا يؤاخذهم على ما أكرهوا عليه .
{ 110 - 111 } { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
أي : ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله ، وخلى دياره وأمواله طلبا لمرضاة الله ، وفتن على دينه ليرجع إلى الكفر ، فثبت على الإيمان ، وتخلص ما معه من اليقين ، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله بلسانه ويده ، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس .
فهذه أكبرالأسباب التي تنال بها أعظم العطايا وأفضل المواهب ، وهي مغفرة الله للذنوب صغارها وكبارها المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه ، ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم واستقامت أمور دينهم ودنياهم ، فلهم الرحمة من الله في يوم القيامة
وقوله - سبحانه - : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، أي : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر .
وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن ، وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة .
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا - كما يقول ابن كثير - : جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا . .
والمعنى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } - أيها الرسول الكريم - تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم .
قال الآلوسي : وقرأ ابن عامر : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أي : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمي ، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا . . .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } ، أي : جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله - تعالى - .
والضمير في قوله : { من بعدها } ، يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر . أي : إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى .
( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، ثم جاهدوا وصبروا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم . يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها . وتوفى كل نفس ما عملت ، وهم لا يظلمون )
وقد كانوا من ضعاف العرب ، الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره . ولكنهم هاجروا بعد ذلك عندما أمكنتهم الفرصة ، وحسن إسلامهم ، وجاهدوا في سبيل الله ، صابرين على تكاليف الدعوة . فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا ، فأخبر الله تعالى أنه : { مِنْ بَعْدِهَا } ، أي : تلك الفعلة ، وهي الإجابة إلى الفتنة ، " لغفور " لهم ، " رحيم " بهم يوم معادهم .
وقوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }{[7426]} [ النساء : 97 ] ، إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 العنكبوت : 10 ] إلى آخر الآية{[7427]} ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل .
قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا ، فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية ، جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا ، وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم ، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد .
قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً{[7428]} فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً ، وإن وجد فهو ضعيف ، وقرأ الجمهور : «من بعد ما فُتِنوا » ، بضم الفاء وكسر التاء ، وقرأ ابن عامر وحده «فَتَنوا » ، بفتح الفاء والتاء ، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول ، كما فعل عمار ، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون ، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان . والضمير في : { بعدها } ، عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم إن ربك للذين هاجروا}، من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة،
{من بعد ما فتنوا}، يعني: من بعد ما عذبوا على الإيمان بمكة،
{ثم جاهدوا}، مع النبي صلى الله عليه وسلم،
{وصبروا إن ربك من بعدها}، يعني: من بعد الفتنة،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله وصبروا على جهادهم.
{إنّ رَبّكَ منْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور، يقول: لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون وللإيمان معتقدون، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم. وذُكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم، فأيسوا من التوبة، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى: إن هؤلاء الذين هاجروا بعد ما فتنوا عن دينهم، وجاهدوا في سبيله وصبروا على الأذى في جنب الله، فإن الله أقسم أنه ضمن لهم أن يفعل بهم الثواب، وساتر عليهم، ورحيم بهم منعم عليهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ}، دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى: إنّ ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى: أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم...
إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة، فالهاء في قوله: {من بعدها} تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل، وهي الهجرة والجهاد والصبر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه: {مِنْ بَعْدِهَا}، أي: تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة، "لغفور "لهم، "رحيم" بهم يوم معادهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم الفاتن والمفتون، أتبع ذلك ذكر حكمهما على القراءتين فقال تعالى: بحرف التراخي إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك: {ثم إن ربك}، أي: المحسن إليك بالعفو عن أمتك، وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه أو قلبه، {للذين هاجروا}، أهل الكفر بالنزوح من بلادهم توبة إلى الله تعالى مما كانوا فيه...
ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى مبيناً أن الفتنة بالأذى -وإن كان بالغاً- غير قادحة في الهجرة وما تبعها، فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى {من بعد ما فتنوا} بالبناء للمجهول -على قراءة الجماعة، لأن المضر هو الفتنة مطلقاً، وللفاعل على قراءة ابن عامر، أي ظلموا بأن فتنوا من آمن بالله حين كانوا كفاراً، أو أعطوا الفتنة من أنفسهم ففتنوها بأن أطاعوا في كلمة الكفر، أو في الرجوع مع من ردهم إلى بلاد الكفر بعد الهجرة من بعد إيمانهم، {ثم جاهدوا}، أي: أوقعوا جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توبة إلى الله تعالى، {وصبروا} على ذلك إلى أن ماتوا عليه، {إن ربك}، أي: المحسن إليك بتسخير من هذه صفاتهم لك...
ولما كان له سبحانه أن يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأن يعذب عليها كلها وعلى بعضها، وأن يقبل الصالح كله، وأن يرد بعضه، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى: {من بعدها}، أي: هذه الأفعال الصالحة الواقعة بعد تلك الفاسدة: وهي الفتنة. {لغفور}، أي: بليغ المحو للذنوب، {رحيم}، أي: بليغ الإكرام، فهو يغفر لهم ويرحمهم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم، وافقوهم على الفتنة ظاهرا، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاق الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة، أي: إجابتهم إليها، {لغفور رحيم}، فيغفر لهم ما فرط منهم. ويرحمهم بالجزاء الحسن...
وشمل قوله: {هاجروا} من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة. ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله: {جاهدوا}، في بث الحق، ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله. ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين، قيل: الآية مدنية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد {بالذين هاجروا} المهاجرون إلى الحبشة الذين أذِن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة...
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم عليه السلام {وقال إني مهاجر إلى ربي} [سورة العنكبوت: 26]. وقال في الأنصار يحبّون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة...
والمجاهدة: المقاومة بالجُهد، أي الطاقة...
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر...
وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين...
والصبر: الثبات على تحمّل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} في سورة البقرة (45)...
وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل...
ويدلّ على ذلك ما في صحيح البخاري: أن أسماء بنت عُميس، وهي ممّن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليهما فقال لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي يُطعم جائعَكم ويعظ جاهلكم، وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونُخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعَم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيتَ حفصة قالت أسماء: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلتتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال:"ليست بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هِجرة واحدة ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان"...
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم {إن} بطريق الإضافة دون العلمية لما يُومئ إليه إضافة لفظ (ربّ) إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه ربّ محمد صلى الله عليه وسلم حاصلاً بأسلوب يدلّ على الذّات العليّة وعلى الذّات المحمدية. وهذا من أدقّ لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه...
وضمير {من بعدها} عائد إلى الهجرة المستفادة من {هاجروا}، أو إلى المذكورات: من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من {فتنوا}. وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلّها...
وقرأ ابن عامر {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن، بمعنى وقع في الفتنة...
من رحمة الله تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم، ومن رحمته أيضاً أن يقبل توبة من يتوب؛ لأنه لو لم يفتح الله باب التوبة للمذنب ليئس من رحمة الله، ولتحول وإن أذنب ولو ذنباً واحداً إلى مجرم يشقى به المجتمع، فلم ير أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلاح، ولا دافعاً يدفعه إلى الإقلاع...
إذن: تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة، وقبولها من المذنب رحمة أخرى؛ لذلك قال سبحانه: {ثم تاب عليهم ليتوبوا "118 "} (سورة التوبة)، أي: شرع لهم التوبة ودلهم عليها، ليتوبوا هم...