{ 106 - 109 } { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يخبر تعالى عن شناعة حال { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ } ، فعمى بعد ما أبصر ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى ، وشرح صدره بالكفر راضيا به مطمئنا أن لهم الغضب الشديد من الرب الرحيم الذي إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وغضب عليهم كل شيء ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، أي : في غاية الشدة مع أنه دائم أبدا .
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله - تعالى - : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ . . . } ، روايات منها قول الآلوسي : " روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه : ياسرا ، وسمية ، على الارتداد فأبوا ، فربطوا سمية بين بعيرين . . . ثم قتلوها وقتلوا ياسرا ، وهما أول شهيدين في الإِسلام . وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، فقيل يارسول الله : إن عمارا قد كفر . فقال صلى الله عليه وسلم : " كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه " .
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال له : " مالك ، إن عادوا فعد لهم بما قلت " . وفي رواية أنه قال له : " كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالإِيمان ، قال صلى الله عليه وسلم : إن عادوا فعد " . فنزلت هذه الآية " .
ثم قال الآلوسي : والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإِكراه ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل ، كما فعل ياسر وسمية ، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة ، بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به .
و " من " ، في قوله : { مَن كَفَرَ بالله } ، مبتدأ أو شرطية ، والخبر أو جواب الشرط محذوف والتقدير : فعليه غضب من الله ، أو فله عذاب شديد ، ويدل عليهما قوله - تعالى - بعد ذلك : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } .
والمعنى : من كفر بالله - تعالى - من بعد إيمانه بوحدانيته - سبحانه - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا ، يستحق من أجله العذاب المهين .
وقوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ، استثناء متصل من الجملة السابقة ، أي : إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر ، والحال أن قلبه مطمئن بالإِيمان ، ثابت عليه ، متمكن منه . . فإنه في هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد .
قال بعض العلماء : وأما قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ، فهو استثناء متصل من " مَنْ " ؛ لأن الكفر أعم من أن يكون اعتقادا فقط ، أو قولا فقط ، أو اعتقادا وقولا . . . وأصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج ، والمراد به هنا : السكون والثبات على الإِيمان بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإِكراه . . .
وقوله : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإِيمان باختياره ورضاه .
و " من " في قوله : { من شرح } شرطية ، وجوابها : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله } .
أي : حكم من تلفظ بكلمة الكفر مكرها أنه لا يعتبر مرتدا ، ولكن حكم من طابت نفوسهم بالكفر ، وانشرحت له صدورهم ، واعتقدوا صحته ، أنهم عليهم من الله - تعالى - غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو ، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول ، يتناسب مع عظيم جرمهم .
هذا ، وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التي حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام . فقال ما ملخصه : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يواري إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال - رضي الله عنه - يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد ، أحد ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .
ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان :
( من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأولئك هم الغافلون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون )
ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة ، وآثر الحياة الأخرى ، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال .
والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه . لأنه عرف الإيمان وذاقه ، ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة . فرماهم بغضب من الله ، وبالعذاب العظيم ، والحرمان من الهداية ؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار ؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون . . ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة ، وحساب للربح والخسارة . ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض ؛ فللأرض حساب ، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان . وليست العقيدة هزلا ، وليست صفة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز . ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة ، والتفظيع للجريمة .
واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك ، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به . وقد روى أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر .
روى ابن جرير - بإسناده - عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي [ ص ] فقال النبي [ ص ] " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي [ ص ] : " إن عادوا فعد " . . فكانت رخصة في مثل هذه الحال .
وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان . كذلك صنعت سمية أم ياسر ، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر .
وقد كان بلال - رضوان الله عليه - يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد . أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها .
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع ! فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي - أحد الصحابة رضوان الله عليهم - أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [ ص ] طرفة عين ما فعلت . فقال : إذن أقتلك ، فقال : أنت وذاك . قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر . وفي رواية : بقرة من نحاس فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح . وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها . فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه . فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .
وفي رواية أنه سجنه ، ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك . فقال : تطلق معي جميع أسارى المسليمن . فقال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا ابدأ . فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .
ذلك أن العقيدة أمر عظيم ، لا هوادة فيها ولا ترخص ، وثمن الاحتفاظ بها فادح ، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن ، وعند الله . وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم .
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به : أنه قد غَضب عليه ، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا{[16707]} على ما أقدموا عليه من الردة لأجل{[16708]} الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فلا{[16709]} يعقلون بها شيئا ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم .
و { من } ، في قوله : { من كفر } ، بدل من قوله : { هم الكاذبون } ، ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه ؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله ، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يتأكد بما روي من أن قوله : { وأولئك هم الكاذبون } ، يراد به عبد الله بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة وأشباههما ، ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد ، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان ، أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة ، وهم بلال وعمار وسمية أمه ، وخباب وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذبونهم ليرتدوا ، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده ، ثم ابتدأ الإخبار : «أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم » ، وهذا الضمير على معنى " من " ، لا على لفظها .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والظاهر من هذه الآية أنها مكية . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من كفر } ، ابتداء ، وقوله : { من شرح } ، تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه ، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب { ولكن } ، وقوله : { فعليهم } ، خبر { من } الأولى والثانية ؛ إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأن الإخبار في قوله : { من كفر } ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر{[7419]} ، و { صدراً } ، نصب على التمييز ، وقوله : { شرح بالكفر صدراً } ، معناه : انبسط إلى الكفر باختياره ، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامع به من القول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئناً بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك ، فإنه لا يضرك ، وإن عادوا فعد{[7420]} .
قال القاضي أبو محمد : ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه ؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قوْلاً واحداً فيما أحفظ ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف ، فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية ، وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه ، وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله .
قال القاضي أبو محمد : وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه ، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل ، فكيف لهذا ، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به ، فقصر الرحمة على القول ، ولم يذكر الفعل .
قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بحجة ؛ لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه ، فأما الإكراه على البيع والأيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان ، وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل ، فلا يلزم المكره شيء من ذلك ، قاله مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك ، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول ، كالعتق والطلاق ، فجعل فيها التقية ، وقال : لا تقية فيما كان فعلاً ، كشرب الخمر والفطر في رمضان ، ولا يحل فعلها لمكره ، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، قال مطرف : ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب ، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان ، وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه ، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال ، هو لها ضامن كالغاصب ، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم ، قال مطرف : وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه ، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه ، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد ، كالزنا والقتل أو نحوه ، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم : لا يفعل أحد ذلك ، وإن قتل إن لم يفعله ، فإن فعل فهو آثم ، ويلزمه الحد والقود ، قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنفاذه لما يتوعد .
قال القاضي أبو محمد : ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين ، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه ، فقد يكون الضرب إكراهاً في شيء دون شيء ، فلهذه النوازل فقه الحال ، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة ، قال ابن الماجشون : وسواء حلف فيما هو لله طاعة ، أو فيما هو لله معصية ، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية ، فاليمين فيه ساقطة ، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمراً أو لا يفسق أو لا يغش في عمله ، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديباً له ، فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب ، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مطرف : لا تقية في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله ، وقال ابن الماجشون : لا يحنث ، وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه ، وقال ابن القاسم بقول مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب ، قال مطرف وابن الماجشون : وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه ، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وقال أيضاً ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب ، وإنما حلف خوفاً من ضربه أو قتله أو أخذ ماله ، فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث ، وإذا اتهم الوالي أحداً بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي ، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية ، فالتقية في هذا ، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ، ويكون نظر الوالي فيه صواباً فلا تقية في اليمين ، وهو حانث ، قاله مالك وابن الماجشون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من كفر بالله من بعد إيمانه}... ثم استثنى، فقال: {إلا من أكره} على الكفر، {وقلبه مطمئن}، يعني: راض، {بالإيمان}... ثم قال عز وجل: {ولكن من شرح} من وسع، {بالكفر صدرا}... {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} في الآخرة.
ابن عطية: قال مالك: والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، إن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنقاذه لما يتوعد...
قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولما فرض الله عز وجل الجهاد على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهد المشركين بعد إذ كان أباحه، وأثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، ورأوا كثرة من دخل في دين الله عز وجل، اشتدوا على من أسلم منه، ففتنوهم عن دينهم أو من فتنوا منهم، فعذر الله من لم يقدر على الهجرة من المفتونين فقال: {إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيـمَانِ}. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل قد جعل لكم مخرجا وفرض على من قدر على الهجرة الخروج إذا كان ممن يفتن عن دينه ولا يمتنع». (الأم: 4/161. ون الأم: 6/162.)...
وأبان الله عز وجل لخلقه أنه تولى الحكم ـ فيما أثابهم وعاقبهم عليه ـ على ما علم من سرائرهم ووافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها، وإنما جزاهم بالسرائر، فأحبط عمل كل من كفر به، ثم قال تبارك وتعالى فيمن فتن عن دينه: {إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيـمَانِ} فطرح عنهم حبوط أعمالهم والمأثم بالكفر إذا كانوا مكرهين وقلوبهم على الطمأنينة بالإيمان وخلاف الكفر. (الأم: 7/294. ون أحكام الشافعي: 1/299.)... وللكفر أحكام: كفراق الزوجة، وأن يقتل الكافر ويغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه، وما يكون حكمه بثبوته عليه...
والإكراه: أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه: من سلطان أو لصٍّ، أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكره يخاف خوفا عليه دلالة: أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم، أو أكثر منه، أو إتلاف نفسه. فإذا خاف هذا يسقط عنه حكم ما أكره عليه من قول ما كان القول شراء أو بيعا أو إقرارا لرجل بحقٍّ أو حدٍّ، أو إقرار بنكاح أو عتق أو طلاق، أو إحداث واحدٍ من هذا وهو مكره، فأي هذا أحدث وهو مكره لم يلزمه. (الأم: 3/236. ون أحكام الشافعي: 1/224.) فأما ما فرض الله على القلب من الإيمان: فالإقرار والمعرفة والعقد، والرضا والتسليم، بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله من نبيّ أو كتاب. فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب، وهو عمله: {إِلا مَنُ اَكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيـمَانِ وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا} وقال: {أَلا بِذِكْرِ اِللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} وقال: {مِنَ اَلذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُومِن قُلُوبُهُمْ} وقال: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اِللَّهُ} فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان. (295- مناقب الشافعي: 1/389.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... ذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم، فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعض... عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ؟» قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فإنْ عادُوا فَعُدْ»...
فتأويل الكلام إذن: من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان وباح به طائعا، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصله أن الله جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيره من الجوارح؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعماله بإكراه. وأما القلب فإنه لا يملك أحد سواه استعماله، وذلك لفضله ومنه.
وقوله تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرا}، فهو كافر به إن كان ذلك على الإكراه، لما ذكرنا أنه باختياره الكفر ينشرح له الصدر لما لا يعمل الإكراه على القلب، {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}، ظاهر...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وترك الصلاة، وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات، وارتكاب الشبهات، بوعيد متلف، أو ضرب شديد لا يحتمله، إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإخلاصَه في عَقْدِه، ولحقته ضرورة في حاله خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ودَفَع عنه عناءَه فلا يَلْفِظُ بكلمة الكفر إلا مُكْرَهاً -وهو مُوَحِّدٌ، وهو مستحقٌ العُذْرَ فيما بينه وبين الله تعالى...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وذلك يدل على أن حكم الردة لا يلزمه، غير أنه إن أمكنه أن يوري فيجب عليه أن يفعل وإلا كفر، ولو صبر حتى قتل شهيداً كان أعظم لأجره، وذلك يدل على أنه عند الإكراه قبيح أيضاً، غير أن المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر، ولو لم يكن قبيحاً في نفسه، لوجب عليه أن يأتي به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
روي أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه -ياسر وسمية- وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم: عذبوا، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتل ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً...
فإن قلت: أي الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت: بل فعل أبويه؛ لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ... وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ من الْكُفْرِ صَدْرُهُ، فَعَلَيْهِ من اللَّهِ الْغَضَبُ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ... فَذَكَرَ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى...
وَالْمُكْرَهُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا، فَهُوَ مُخْتَارٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ من مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، أَوْ الضَّرْبُ، أَوْ السَّجْنُ...
إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ من اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ من السَّمَاحَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ...
لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ، حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)...
وَالْخَبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ من الْعُلَمَاءِ... وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ظُلْمًا اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ الْجَمَاعَةُ...
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلا في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه، ومن يكفر بلسانه وقلبه معا...
{إلا من أكره} ليس باستثناء، لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعا صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة...
يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية...
أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات... إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوما وعفو الله متوقع...
لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئا منها، وما أراد إلا ذلك المعنى، فههنا يتعين إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل...
أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر... الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر. أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة، فوجب أن يكون حال الأول أفضل، والله أعلم...
المرتبة الأولى: أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى، فوجب أن يجب لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.
المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحا ولا يصير واجبا، ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه.
المرتبة الثالثة: أن لا يجب ولا يباح بل يحرم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية... من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل: وهو الزنا. لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه...
{وقلبه مطمئن بالإيمان} يدل على أن محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النفس، فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس، والله أعلم...
ثم قال تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدرا على أنه مفعول لشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينتقل السياق إلى بيان أحكام من يكفر بعد الإيمان:...
ولقد لقي المسلمون الأوائل في مكة من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة، وآثر الحياة الأخرى، ورضي بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال.
والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه. لأنه عرف الإيمان وذاقه، ثم ارتد عنه إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة. فرماهم بغضب من الله، وبالعذاب العظيم، والحرمان من الهداية؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون.. ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة، وحساب للربح والخسارة. ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض؛ فللأرض حساب، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان. وليست العقيدة هزلا، وليست صفة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز. ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة، والتفظيع للجريمة.
واستثنى من ذلك الحكم الدامغ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. أي من أظهر الكفر بلسانه نجاة لروحه من الهلاك، وقلبه ثابت على الإيمان مرتكن إليه مطمئن به. وقد روى أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر.
روى ابن جرير -بإسناده- عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] "كيف تجد قلبك؟ "قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبي [صلى الله عليه وسلم]: "إن عادوا فعد".. فكانت رخصة في مثل هذه الحال.
وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم مؤثرين الموت على لفظة باللسان. كذلك صنعت سمية أم ياسر، وهي تطعن بالحرية في موضع العفة حتى تموت وكذلك صنع أبوه ياسر.
وقد كان بلال -رضوان الله عليه- يفعل المشركون به الأفاعيل حتى ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد. أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله. فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع! فلم يزل يقطعه إربا إربا، وهو ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذيفة السهمي -أحد الصحابة رضوان الله عليهم- أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم، فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك و جميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد [صلى الله عليه وسلم] طرفة عين ما فعلت. فقال: إذن أقتلك، فقال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر. وفي رواية: بقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها. فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه. فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي رواية أنه سجنه، ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك في. فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك. فقال: تطلق معي جميع أسارى المسلمين. فقال: نعم. فقبل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا ابدأ. فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
ذلك أن العقيدة أمر عظيم، لا هوادة فيها ولا ترخص، وثمن الاحتفاظ بها فادح، ولكنها ترجحه في نفس المؤمن، وعند الله. وهي أمانة لا يؤتمن عليها إلا من يفديها بحياته وهانت الحياة وهان كل ما فيها من نعيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما سبق التّحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة والرُبُو، والتحذير من زَلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرّهم شُبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي.
ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا، فلذلك ردّ عليهم بقوله: {قل نزّله روح القدس} إلى قوله: {ليثبّت الذين آمنوا} [سورة النحل: 102]، وكانوا يقولون: {إنما يعلمه بشر} [سورة النحل: 103] فردّ عليهم بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [سورة النحل: 103]. وكان الغلام الذي عنوه بقولهم {إنما يعلمه بشر} قد أسلم ثم فتنهُ المشركون فكفر، وهو جَبر مولى عامر بن الحَضرمي. وكانوا راودوا نفراً من المسلمين على الارتداد، منهم: بلال، وخَبّاب بن الأرتّ، وياسر، وسُميّةُ أبَوَا عمار بن ياسر، وعمّارٌ ابنهما، فثبتوا على الإسلام. وفتنوا عماراً فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفتنوا نفراً آخرين فكفروا، وذُكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجّاج، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} في سورة العنكبوت (10)، فكان مِن هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره.
على أن مضمون من كفر بالله من بعد إيمانه} مقابل لمضمون {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [سورة النحل: 97]، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدئ بالتحذير تحفّظاً على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفُتح باب الرخصة للمحَافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.
واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفَر كفروا بعد إسلامهم كانت مَن} موصولة وهي مبتدأ والخبر {فعليهم غضب من الله}. وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدأ شبهاً بأداة الشرط. وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في غير موضع. ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم} [سورة البروج: 10]، وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} إلى قوله {فبشّرهم بعذاب أليم} في سورة براءة (34). وقيل إن فريقاً كفروا بعد إسلامهم، كما رُوي في شأن جبر غلام ابن الحَضرمي. وهذا الوجه أليق بقوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} [سورة النحل: 108] الآية.
وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون {مَن} شرطية، والشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير، أي مَن يَكْفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله: {فعليهم غضب من الله} جواباً.
والتّحذير حاصل على كلا المعنيين.
وأما قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فهو ترخيص ومعذرة لِمَا صدر من عمار بن ياسر وأمثالِه إذا اشتدّ عليهم عذاب من فتنوهم.
وقوله: {إلا من أكره} استثناء من عموم {من كفر} لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا مَن أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده. وهذا فريق رخّص الله لهم ذلك كما سيأتي.
ومصحّح الاستثناء هو أن الذي قال قول الكفّار قد كفر بلفظه.
والاستدراك بقوله: {ولكن من شرح بالكفر صدراً} استدراك على الاستثناء، وهو احتراس من أن يفهم من الاستثناء أن المكره مرخّص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.
و {من شرح} معطوف ب {لكن} على {من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف {لكن عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق.
واختير {فعليهم غضب} دون نحو: فقد غضب الله عليهم، لما تدلّ عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي غضب لا مغفرة معه.
وتقديم الخبر المجرور على المبتدأ للاهتمام بأمرهم، فقدّم ما يدلّ عليهم، ولتصحيح الإتيان بالمبتدأ نكرة حين قصد بالتّنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفي بالتنكير عن الصفة.
وأما تقديم {لهم} على {عذاب عظيم} فللاهتمام.
والإكراه: الإلجاء إلى فعل ما يُكْرَه فِعلُه. وإنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمّله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.
وقد رخّصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول أو فعل.
وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا: فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلماً. وقد رخّص الله ذلك رفقاً بعباده واعتباراً للأشياء بغاياتها ومقاصدها.
وفي الحديث: أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوّبه وقال له: « وإن عادوا لك فعُد». وأجمع على ذلك العلماء. وشذّ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر حكمَ الكفّار في الظاهر كالمرتدّ فيستتاب عن المِكنة منه.
وسوّى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم. وقالت طائفة: إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها. ونُسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري، وهي تفرقة غير واضحة. وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سوّل القلب.
وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع.
وأما في الاهتداء على الناس من ترتّب الغُرْم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكره عليه تفاوت، وأعلاها الإكراه على قتل نفس. وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعّد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل.
على أن أنواعاً من الاعتداء قد يُجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطئ بين المكرِه والمكرَه. ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه.
وهذه الآية لم تتعرّض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقّه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد.
والخلاف في طلاق المكره معلوم، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير.
وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالقول وحده لا يكفي، ولابد وأن تشهد بذلك، ومعنى تشهد أن يواطئ القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة. والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات: الأولى: أن يواطئ القلب اللسان إيجاباً بالإيمان؛ ولذلك نقول: إن المؤمن منطقي في إيمانه؛ لأنه يقول ما يضمره قلبه.
الثانية: أن يواطئ القلب اللسان سلباً، أي: بالكفر، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق.
الثالثة: أن يؤمن بلسانه ويضمر الكفر في قلبه، وهذه حالة المنافق، وهو غير منطقي في إيمانه، حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان.
الرابعة: أن يؤمن بقلبه، وينطق كلمة الكفر بلسانه. وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية. فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان، وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟. قوله: {من كفر بالله من بعد إيمانه}... فإن كانت الآيات قد سكتت عمن أكره، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره، فقد بينت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله، أي: في الدنيا. ولهم عذاب عظيم، أي: في الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كان الإسلام واقعياً في مسألة مسؤولية الإنسان المؤمن في الإصرار على موقفه الإيماني، ففرض عليه الالتزام بالموقف في الحالات التي يمثل فيها الضعف إسقاطاً للموقف كله، ورخّص له التراجع عنه بطريقةٍ ظاهرية إنقاذاً للموقف من الانهيار في بعض مراحله، وحفظاً للساحة عندما لا تستطيع مواصلة الجهاد والحركة تحت تأثير الضغوط القاسية التي تتعرض لها بفعل القوّة الطاغية التي يملكها أعداء الله...
وقد نلاحظ، في هذا المجال، أن الكافرين الذين يضغطون على المؤمنين ليحصلوا منهم على اعترافٍ بالكفر، أو الطغاة الذين يعذبون المستضعفين ليحصلوا منهم على اعتراف ببعض الأمور، لا ينطلقون من موقع قوّةٍ في طلبهم ذاك، بل من موقع ضعف شديد يشعرون به، الأمر الذي يجعلهم يلهثون وراء كلمة اعتراف بهم، توحي لهم بانهزام الخصم وترضي كبرياءهم، حتى وهم يوقنون بعدم كونه اعترافاً حقيقياً، فلا يكون الكفر في هذه الحال سوى كفر كلامي يخفي تحدياً إيمانياً يخطط من خلاله المؤمن للانقضاض عليهم، مستفيداً من غطاء الكفر الشكلي الذي اعترف به؛ لأن الضغط يصنع الحركة المضادة، والعذاب يستثير مشاعر الثورة على كل الواقع الذي يصنع مأساة الإنسان الفكرية والعملية، وإن كل وسائل التعذيب لا تستطيع تحويل قناعات الناس إلى قناعات مضادة؛ لأن مواقع القناعة هي مواقع الفكر التي لا تستطيع وسائل الضغط تحويلها. ولهذا فإن الله قد استثنى المؤمنين الذين أُكرهوا على كلمة الكفر من فئة المرتدين، فلم يعتبر ذلك ارتداداً عن الإيمان؛ لأن قضية الارتداد هي قضية الكفر الذي يتسع له القلب، ويتحرك فيه الموقف...