10- يا أيها الذين آمنوا : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك فاختبروهن لتعلموا صدق إيمانهن ، الله أعلم بحقيقة إيمانهن ، فإن اطمأننتم إلى إيمانهن فلا تردوهن إلى أزواجهن الكفار ، فلا المؤمنات بعد هذا حلال للكافرين ، ولا الكافرون حلال للمؤمنات ، وآتوا الأزواج الكافرين ما أنفقوا من الصداق على زوجاتهم المهاجرات إليكم ، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا آتيتموهن صداقهن ، ولا تتمسكوا بعقد زوجية الكافرات الباقيات في دار الشرك أو اللاحقات بها ، واطلبوا من الكفار ما أنفقتم من صداق على اللاحقات بدار الشرك وليطلبوا - هم - ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات . ذلكم - التشريع - حكم الله ، يفصل به بينكم ، والله عليم بمصالح عباده ، حكيم في تشريعه .
{ 10-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
لما كان صلح الحديبية ، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلما ، أنه يرد إلى المشركين ، وكان هذا لفظا عاما ، [ مطلقا ] يدخل في عمومه النساء والرجال ، فأما الرجال فإن الله لم ينه رسوله عن ردهم ، إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما للصلح الذي هو من أكبر المصالح ، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة ، أمر الله المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات ، وشكوا في صدق إيمانهن ، أن يمتحنوهن ويختبروهن ، بما يظهر به صدقهن ، من أيمان مغلظة وغيرها ، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية .
فإن كن بهذا الوصف ، تعين ردهن وفاء بالشرط ، من غير حصول مفسدة ، وإن امتحنوهن ، فوجدن صادقات ، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان ، فلا يرجعوهن إلى الكفار ، { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع ، وراعى أيضا الوفاء بالشرط ، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن ، ولا جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك ، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة ، وكما أن المسلمة لا تحل للكافر ، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها ، غير أهل الكتاب ، ولهذا قال تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها{[1058]} فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى ، { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ } أيها المؤمنون ، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار ، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم ، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم{[1059]} إلى الكفار ، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم ، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل ، برضاع أو غيره ، كان عليه ضمان المهر ، وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ } أي : ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم{[1060]} { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيعلم تعالى ، ما يصلح لكم من الأحكام ، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة{[1061]} .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء المؤمنات ، اللاتى تركن أزواجهن الكفار ، ورغبن فى الهجرة إلى دار السلام فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا . . . . } .
قال الإمام القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ، واقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين - سبحانه - أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركى قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافرا . . . فقال : يا محمد ، اردد على امرأتى ، فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : " جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - ردها علينا للشرط ، فقال : " كان الشرط فى الرجال لا فى النساء " فأنزل الله هذه الآية " ، والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } ، من دار الكفر الى دار الإيمان ، وراغبات فى فراق الكافرين ، والبقاء معكم .
{ فامتحنوهن } أي : فاختبروهن اختبارا يغلب معه الظن بأنهن صادقات في هجرتهن وفي إيمانهن ، وفي موافقة قلوبهن لألسنتهن .
وقد ذكر ابن جرير فى كيفية امتحانهن صيغا منها : ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانت المرأة إذا أتت رسول الله - صلى الله عليها وسلم - حلفها بأنها ما خرجت بغضا لزوجها ، ولا رغبة فى الانتقال من أرض إلى أرض ، ولا التماسا لدنيا ، وإنما خرجت حبا لله ولرسوله .
وجملة : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } معترضة لبيان أن معرفة خفايا القلوب ، مردها إلى الله - تعالى - وحده .
قال صاحب الكشاف : قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أى : منكم ، لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ودرستم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به .
والمراد بالعلم فى قوله - تعالى - : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } الظن الغالب ، أي : فإن غلب على ظنكم بعد امتحانهن أنهن مؤمنات صادقات فى إيمانهن ، فأبقوهن عندكم ، ولا ترجعوهن إلى أزواجهن أو إلى أهلهن من الكفار .
وسمى الظن القوي علما للإيذان بأنه كالعلم فى وجوب العمل بمقتضاه ، وإنما رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجال الذين جاءوه مؤمنين بعد صلح الحديبية ، ولم يرد النساء المؤمنات ، لأن شرط الرد كان فى الرجال ولم يكن فى النساء - كما سبق أن ذكرنا نقلا عن القرطبى - ، ولأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة فى الرد ما يخشى على المرأة ، من إصابة المشرك إياها ، وتخويفها ، وإكراهها على الردة .
قال بعض العلماء : قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء فى معاهدة صلح الحديبية ، والتى كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه إلى المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين ، لا يردونه على المسلمين ، فأخرجت الآية النساء من المعاهدة ، وأبقت الرجال ، من باب تخصيص العموم .
وتخصيص السنن بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنن ، أمر معلوم .
ومن أمثلة تخصيص السنة بالكتاب ، قوله : - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبين من حى فهو ميت " أى : فهو محرم ، فقد جاء تخصيص هذا العموم بقوله - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } أى : ليس محرما ، ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } فقد جاء تخصيص هذا العموم بحديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " .
وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت فى حق الرجال فقط .
والذي يظهر - والله أعلم - أنها مخصصة لمعاهدة الحديبية ، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن - كما قال الإمام ابن كثير .
وقوله - سبحانه - : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تعليل للنهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى دار الكفر ، أو إلى أزواجهن الكفار .
أى : لا ترجعوا - أيها المؤمنون - النساء المؤمنات المهاجرات إليكم من أرض الكفر إلى أزواجهن الكافرين ، فإن هؤلاء المؤمنات صرن بسبب إيمانهن لا يصح ارتباطهن بأزواجهن الكفار ، كما لا يصح لهؤلاء الكافرين الارتباط بالنساء المؤمنات .
فالجملة الكريمة المقصود بها تأكيد النهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى أرض الكفر ، ووجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر فى جميع الأحوال .
قال ابن كثير : هذه الآية هى التى حرمت المسلمات على المشركين وقد كان ذلك جائزا فى أول الإسلام ، أن يتزوج المشرك المؤمنة . . .
وقوله - تعالى - : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } بيان لمظهر من مظاهر عدالة الإسلام فى أحكامه . والخطاب لولاة الأمور . وهذا الإيتاء إنما هو للأزواج المعاهدين ، أما إذا كانوا حزبيين فلا يعطون شيئا .
أي : وسلموا إلى المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ، ما دفعوه لهن من مهور ، قال القرطبى : قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } : أمر الله - تعالى - إذا أُمسِكَتْ المرأة المسلمة ، أن يرد إلى زوجها المشرك ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما مُنِع من أهله ، بحرمة الإسلام ، أمر- سبحانه - برد المال إليه ، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فالمراد بقوله - تعالى - { مَّآ أَنفَقُواْ } : ما دفعه المشركون لأزواجهم المؤمنات .
وعبر عن هذه المهور بالنفقة ، للإشعار بأن هؤلاء الزوجات المؤمنات ، أصبحت لا صلة لهن بأزواجهن المشركين .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } تكريم لهؤلاء النساء المشركين ، وبعد استبرائكم لأرحامهن ، وعليكم أن تدفعوا لهن مهورهن كاملة غير منقوصة .
ونص على دف المهر لهن - مع أنه أمر معلوم - لكى لا يتوهم متوهم ، أن رد المهر إلى الزوج الكافر ، يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين ، إذ المهر المردود للكفار ، لا يقوم مقام المهر الذى يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر .
والمراد بالإيتاء : ما يشمل الدفع العاجل ، والتزام الدفع فى المستقبل .
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين عن إبقاء الزوجات المشركات فى عصمتهم فقال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
والعصم : جمع عصمة ، والمراد بها هنا : عقد النكاح الذي يربط بين الزوج والزوجة ، والكوافر : جمع كافرة ، كضوارب جمع ضاربة .
أي : ولا يصح لكم - أيها المؤمنون - أن تبقوا فى عصمتكم ، زوجاتكم اللائي آثرن الكفر على الإيمان ، وأبين الهجرة معكم من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وقد بادر المسلمون بعد نزول هذه الآية بتطليق زوجاتهم الكافرات فطلق عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - امرأتين له كانتا مشركتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة .
وهذه الجلمة الكريمة تأكيد لقوله - تعالى - قبل ذلك : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر من الأحكام التى تدل على عدالة الإسلام فى تشريعاته فقال : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أي : كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين ، مهور نسائهم المسلمات اللائى فررن إليكم ، وتركن أزواجهن الكفار ، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائى انفصلتم عنهن لكفرهن ، ولحقن بهؤلاء المشركين ، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائى انفصلن عنهم وهاجرن إليكم .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام ، إنما هى من الله - تعالى - العليم بأحوال النفوس ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، فقال : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
أي : ذلكم الذى ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هى أحكام من الله - تعالى - فاتبعوها ، فهو - سبحانه - صاحب الحكم المطلق بينكم ، وهو - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، حكيم فى كل تصرفاته وتشريعاته .
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !
قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .
( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .
فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?
( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :
( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .
تقدم في سورة " الفتح " ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فكان فيه : " على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وفي رواية : " على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وهذا قول عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل ، والسدي . فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، من المسند الكبير ، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، عن محمد بن يحيى الذهلي ، عن يعقوب بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن مُجَمِّع بن يعقوب ، عن حسين بن أبي لُبانة ، عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة ، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين ، وأنزل الله آية الامتحان{[28685]} .
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة عن حُصَين ، عن أبي نصر الأسدي قال : سُئِل ابنُ عباس : كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ ؟ قال : كان يمتحنهن : بالله ما خَرجت من بُغض زوج ؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض ؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا ؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ؟ {[28686]} .
ثم رواه من وجه آخر ، عن الأغر بن الصباح ، به . وكذا رواه البزار من طريقه ، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب{[28687]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبد الله{[28688]} ورسوله .
وقال مجاهد : { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن : عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره ، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ؟ فذلك قوله : { فَامْتَحِنُوهُنّ } .
وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله : ما أخرجكن النشوز ؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه ؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن .
وقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا .
وقوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا ، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقًا ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا بن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ ابن الربيع ]{[28689]} وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا .
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة{[28690]} . ومنهم من يقول : " بعد سنتين " ، وهو صحيح ؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين . وقال الترمذي : " ليس بإسناده بأس ، ولا نعرف{[28691]} وجه هذا الحديث ، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين . وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث ، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطأة - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد . فقال يزيد : حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب " .
قلت : وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة{[28692]} ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم .
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه ؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم{[28693]} انفسخَ نِكاحُها منه .
وقال آخرون : بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم .
وقوله : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني : أزواج المهاجرات من المشركين ، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة . قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، والزهري ، وغير واحد .
وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني : إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن ، أي : تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك .
وقوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله ، عز وجل ، على عباده المؤمنين نكاح المشركات ، والاستمرار معهن .
وفي الصحيح ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ومَرْوان بن الحكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [ فَامْتَحِنُوهُنَّ ] } {[28694]} إلى قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية{[28695]} .
وقال ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأسفل الحديبية ، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ، وقال : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك ، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها معاوية ، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عُبَيد الله ، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم ، رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص{[28696]} .
وقوله : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي : وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار ، إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين .
وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك .
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن ، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ، ابتداء ، وقيل : هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، والعصم : جمع عصمة : وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وكذلك العصمة في كل شيء ، السبب الذي يعتصم به ، ويعتمد عليه ، وقرأ جمهور السبعة والناس : «تُمسِكوا » بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك ، وقرأ أبو عمرو{[11051]} وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف «ولا تمسّكوا » من مسك ، بالشد في السين ، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد : «تَمَسَّكوا » بفتح التاء والميم ، وفتح السين وشدها ، وقرأ الحسن : «تَمْسِكوا » بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة .
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، إنه في الرجال والنساء ، فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، لأن كوافر : جمع كافرة ، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون : طائفة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبهت ، وقلت هذا تأييد{[11052]} .