{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم مما تسألونه إياه بلسان الحال ، أو بلسان المقال ، من أنعام ، وآلات ، وصناعات وغير ذلك .
{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } فضلا عن قيامكم بشكرها { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } أي : هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه كفَّار لنعم الله ، لا يشكرها ولا يعترف بها إلا من هداه الله فشكر نعمه ، وعرف حق ربه وقام به .
ففي هذه الآيات من أصناف نعم الله على العباد شيء عظيم ، مجمل ومفصل يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره ، وذكره ويحثهم على ذلك ، ويرغبهم في سؤاله ودعائه ، آناء الليل والنهار ، كما أن نعمه تتكرر عليهم في جميع الأوقات .
ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ . . }
أى : وأعطاكم - فضلا عما تقدم من النعم - بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التى لا تعلمونها كما قال - تعالى - { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الجمل ما ملخصه " قوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أى : كل نوع أو كل صنف سألتموه أى : شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه ، وإن لم تسألوه بالفعل .
وفى " من " قولان : أحدهما أنها زائدة فى المفعول الثانى ، أى : آتاكم كل ما سألتموه .
والثانى أن تكون تبعيضية أى : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : وآتاكم شيئسا من كل ما سألتموه ، وهو رأى سيبويه . . "
وجملة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } مؤكدة لمضمون ما قبلها .
أى : وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم ، وتحاولوا تحديد هذا العدد ، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم ، وخفاء بعضه عليكم .
والإِحصاء : ضبط العدد وتحديده ، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ .
قال ابن كثير : " يخبر - سبحانه - عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب - رحمه الله - : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله أكثر من يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين " .
وفى صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لك الحمد غير مكفى - أى لم يكفه غيره بل هو - سبحانه - يكفى غيره - ولا مودع - أى متروك حمده - ، ولا مستغنى عنه ربنا - أى هو الذى يحتاج إليه الخلق . . " .
والمراد بالإِنسان فى قوله { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } نوع معين منه وهو الكافر كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أى : إن الإِنسان الكافر لشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله - تعالى - ، ولشديد الجحود والكفران لنعمه - عز وجل .
قال الشوكانى : قوله - سبحانه : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج : إن الإِنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة ، كما فى قوله - تعالى - { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } " كفار " أى : شديد كفران نعم الله عليه ، جاحد لها ، غير شاكر لله عليها كما ينبغى ويجب عليه .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وثنت بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الانفاق فى سبيل الله .
ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وعلمه وقدرته ، وهذه النعم هى خلق السموات والأرض ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وتسخير الفلك فى البحار ، وتسخير الأنهار ، وتسخير الليل والنهار .
ثم ختمت ببيان أنه - سبحانه - قد أعطى الناس - فضلا عن كل ذلك - جميع ما يحتاجون إليه فى مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس - إلا من عصم الله - لا يقابلون نعمه - سبحانه - بما تستحقه من شكر ، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم .
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة . ففي كل خط من النقط ما لا يحصى . ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل :
( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع . . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . .
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر ، أو كل البشر . وكلهم محدودون بين حدين من الزمان : بدء ونهاية . وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان . ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان . .
وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا ، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا . . ( إن الإنسان لظلوم كفار ) ! ! !
وقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول : هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم{[15956]} وقالكم .
وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه .
وقرأ بعضهم : " وأتاكم من كل ما سألتموه " .
وقوله : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب ، رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر{[15957]} من أن يحصيها{[15958]} العباد ، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين .
وفي صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم ، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع ، ولا مستغنى عنه ربَّنا " {[15959]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المُحبّر ، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة{[15960]} دواوين ، ديوان ، فيه العمل الصالح ، وديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه ، فيقول الله لأصغر{[15961]} نعمه - أحسبَه . قال : في ديوان النعم : خذي ثمنك من عمله الصالح ، فتستوعب عمله الصالح كله ، ثم تَنَحّى وتقول : وعزتك ما استوفيت . وتبقى الذنوب والنعم{[15962]} فإذا أراد الله أن يرحم قال : يا عبدي ، قد ضاعفتُ لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال : ووهبت لك نعمي " {[15963]} غريب ، وسنده ضعيف .
وقد روي في الأثر : أن داود ، عليه السلام ، قال : يارب ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي : حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم .
وقال الشافعي ، رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة{[15964]} تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها ، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها{[15965]} .
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ *** تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به *** إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ
{ وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب { ما سألتموه } ما كان حقيقيا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول . وقرئ { من كل } بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون " ما " نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه . { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن إفرادها ، فإنها غير متناهية . وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة . { إن الإنسان لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو بظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان . { كفّار } شديد الكفران . وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع .
وقوله : { وآتاكم } للجنس من البشر ، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر ، فيقال -بحسب هذا - للجميع أُوتيتم كذا - على جهة التعديد للنعمة - وقيل المعنى : { وآتاكم من كل ما سألتموه } أن لو سألتموه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الأول .
و { ما } في قوله : { ما سألتموه } يصح أن تكون مصدرية ، ويكون الضمير في قوله : { سألتموه } عائداً على الله تعالى : ويصح أن يكون { ما } بمعنى الذي ، ويكون الضمير عائداً على الذي .
وقرأ الضحاك بن مزاحم{[7085]} «من كلٍّ ما سألتموه » بتنوين { كل } وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام ، ورويت عن نافع ، المعنى : وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل . ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به . ف { ما } في قوله : { ما سألتموه } مفعول ثان ب { آتاكم } وقال بعض الناس : { ما } نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير الضحاك . وأما القراءة الأولى بإضافة { كل } إلى { ما } - فلا بد من تقدير المفعول الثاني جزءاً أو شيئاً ونحو هذا .
وقوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك . وقال طلق بن حبيب : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد . ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه .
وقوله : { إن الإنسان } يريد به النوع والجنس المعنى : توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر ، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى .
معنى { وآتاكم من كل ما سألتموه } أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها ، وذلك مثل توالد الأنعام ، وإخراج الثمار والحب ، ودفع العوادي عن جميع ذلك : كدفع الأمراض عن الأنعام ، ودفع الجوائح عن الثمار والحب .
فجملة { وآتاكم من كل ما سألتموه } تعميم بعد خصوص ، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } [ سورة الشورى : 27 ] ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان . وبهذا يتبين تفسير الآية .
وجملة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم ، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم .
فمعنى { إن تعدوا } إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه . وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم ، كنعمة التنفس ، ونعمة الحواس ، ونعمة هضم الطعام والشراب ، ونعمة الدورة الدموية ، ونعمة الصحة . وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره .
والإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد ، وهو منقول من الحصى ، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط .
وجملة { إن الإنسان لظلوم كفار } تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفراً ، فلذلك فصلت عنها .
والمراد ب { الإنسان } صنف منه ، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها ، فالإنسان هو المشرك ، مثل الذي في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا } [ سورة مريم : 66 ] ، وهو استعمال كثير في القرآن .
وصيغتا المبالغة في { ظلوم كفار } اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً ، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره .