{ 106-109 } { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا }
أي : وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا ، فارقًا بين الهدى والضلال ، والحق والباطل . { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } أي : على مهل ، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ، ويستخرجوا علومه .
{ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } أي : شيئًا فشيئًا ، مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة .
{ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } فإذا تبين أنه الحق ، الذي لا شك فيه ولا ريب ، بوجه من الوجوه ف :
ثم بين - سبحانه - الحكم التى من أجلها أنزل القرآن مفصلاً ومنجمًا ، فقال : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } .
ولفظ : { قرآنا } منصوب بفعل مضمر أى : وآتيناك قرآنا .
وقوله : { فرقناه } أى : فصلناه . أو فرقنا فيه بين الحق والباطل . أو أنزلناه منجمًا مفرقًا .
قال الجمل : وقراءة العامة { فرقناه } بالتخفيف . أى : بينا حلاله وحرامه . . .
وقرأ على وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد وفيه وجهان : أحدهما : أن التضعيف للتكثير . أى : فرقنا آياته بين أمر ونهى وحكم وأحكام .
ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار . والثانى : أنه دال على التفريق والتنجيم .
وقوله { على مكث } أى : على تؤدة وتمهل وحسن ترتيل ، إذ المكث التلبث فى المكان ، والإِقامة فيه انتظارًا لأمر من الأمور .
والمعنى : " ولقد أنزلنا إليك - أيها الرسول - هذا القرآن ، مفصلاً فى أوامره ونواهيه ، وفى أحكامه وأمثاله . . . ومنجما فى نزوله لكى تقرأه على الناس على تؤدة وتأن وحسن ترتيل ، حتى يتيسر لهم حفظه بسهولة ، وحتى يتمكنوا من تطبيق تشريعاته وتوجيهاته تطبيقًا عمليًا دقيقًا .
وهكذا فعل الصحابة - رضى الله عنهم - : فإنهم لم يكن القرآن بالنسبة لهم متعة عقلية ونفسية فحسب ، وإنما كان القرآن بجانب حبهم الصادق لقراءته وللاستماع إليه منهجًا لحياتهم ، يطبقون أحكامه وأوامره ونواهيه وآدابه . . . فى جميع أحوالهم الدينية والدنيوية .
قال أبو عبد الرحمن السلمى : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، أنهم كانوا يستقرئون عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتركوها حتى يعملوا بما فيها " فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا " .
وقوله - سبحانه - : { ونزلناه تنزيلاً } أى : ونزلناه تنزيلاً مفرقًا منجمًا عليك يا محمد فى مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنة ، على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وعلى حسب الحوادث والمصالح ، وليس من أجل تيسير حفظه فحسب .
ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد ، لا فقها نظريا ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني !
وتلك حكمة نزوله متفرقا ، لا كتابا كاملا منذ اللحظة الأولى .
ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهى ، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب ؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .
ولقد أنزل الله هذا القرآن قائما على الحق : ( وبالحق أنزلناه ) فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : ( وبالحق نزل ) . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبسا بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به .
وقوله : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } أما قراءة من قرأ بالتخفيف ، فمعناه : فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مُفرقًا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة . قاله عكرمة عن ابن عباس .
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد ، أي : أنزلناه آية آية ، مبينًا مفسرًا ؛ ولهذا قال : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } أي : لتبلغه الناس وتتلوه عليهم { عَلَى مُكْثٍ } أي : مَهَل { وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } أي : شيئًا بعد شيء .
{ وقرآنا فرقناه } نزلناه مفرقا منجما . وقيل فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف الجار كما في قوله : ويوماً شهدناه ، وقرئ بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في تضاعيف عشرين سنة . { لتقرأه على الناس على مُكثٍ } على مهل وتؤدة فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه . { ونزّلناه تنزيلا } على حسب الحوادث .
وقوله { وقرآناً } مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد ، أي «وفرقنا قرآناً » ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في { أرسلناك } من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «فرَقناه » بتخفيف الراء ، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقاناً ، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف ، وحميد وعمرو بن فائد «فرّقناه » بتشديد الراء ، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبيّ «فرقناه عليه لتقرأه » أي أنزلناه شيئاً بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله { لتقرأه على الناس على مكث } ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة ، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة ؟ فقيل : في خمس وعشرين سنة ، وقال ابن عباس : في ثلاث وعشرين سنة ، وقال قتادة في عشرين سنة ، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين ، وتم بموته ، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال : نزل القرآن في ثمان عشرة سنة ، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم ، وتأولت فرقة قوله عز وجل { على مكث } أي على ترسل في التلاوة ، وهو ترتيل ، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد ، والتأويل الآخر أي { على مكث } وتطاول في المدة شيئاً بعد شيء ، وقوله { ونزلناه تنزيلاً } مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية ، ، وأجمع القراء على ضم الميم من { مُكث } ، ويقال مَكث ومِكث بفتح الميم ومكث بكسرها ،
عطف على جملة { أنزلناه } [ الإسراء : 105 ] .
وانتصب { قرآناً } على الحال من الضمير المنصوب في { فرقناه } مقدمة على صاحبها تنويهاً الكون قرآناً ، أي كونه كتاباً مقروءاً . فإن اسم القرآن مشتق من القراءة ، وهي التلاوة ، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى ، كما أشار إليه قوله تعالى : { تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [ الحجر : 1 ] ، وقد تقدم بيانه . فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب ، وقرآن ، وفرقان ، وذكر ، وتنزيل .
وتجري عليه هذه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] وقوله : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقاً ، وإلى قوله : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } [ الفرقان : 1 ] في مقام كونه فارقاً بين الحق والباطل ، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غيرُ الكتاب المنزل على محمد .
ومعنى { فرقناه } جعلناه فِرَقاً ، أي أنزلناه منجماً مفرقاً غير مجتمع صبُرة واحدة . يقال : فرق الأشياء إذا باعد بينها ، وفرق الصبرة إذا جزأها . ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة ، فيكون { فرقناه } محتملاً معنى بيناه وفصلناه ، وإذ قد كان قوله : { قرآناً } حالاً من ضمير { فرقناه } آل المعنى إلى : أنا فرقناه وأقرأناه .
وقد عُلل بقوله : { لتقرأه على الناس على مكث } . فهما علتان : أن يُقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآناً ، وأن يقرأ على مُكْث ، أي مَهل وبطء وهي علة لتفريقه .
والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين .
وجملة { ونزلناه تنزيلاً } معطوفة على جملة { وقرآنا فرقناه } . وفي فعل { نزلناه } المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله : { وبالحق أنزلناه } [ الإسراء : 105 ] .
وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله : لتقرأه على الناس على مكث } من اتحاد الحكمة . وهي ما صَرح به قوله تعالى : { كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا } [ الفرقان : 32 ] .
ويجوز أن يراد : فرقنا إنزاله رعياً للأسباب والحوادث . وفي كلام الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا : { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] .