{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } من العمل ، وفرطت في جنب الله . { كَلَّا } أي : لا رجعة له ولا إمهال ، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ، { إِنَّهَا } أي : مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا { كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } أي : مجرد قول باللسان ، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم ، وهو أيضا غير صادق في ذلك ، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه .
{ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : من أمامهم وبين أيديهم برزخ ، وهو الحاجز بين الشيئين ، فهو هنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة ، وفي هذا البرزخ ، يتنعم المطيعون ، ويعذب العاصون ، من موتهم إلى يوم يبعثون ، أي : فليعدوا له عدته ، وليأخذوا له أهبته .
و " لعل " فى قوله تعالى : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً } للتعليل . أى : ارجعون لكى أعمل عملا صالحا .
وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { . . وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } ثم بين - سبحانه - الجواب عليهم فقال : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .
و " كلا " حرف زجر وردع . والبرزخ : الحاجز والحاجب بين الشيئين لكى لا يصل أحدهما إلى الآخر . والمراد بالكلمة : ما قاله هذا الكافر . أى : رب ارجعون .
أى : يقال لهذا الكافر النادم : كلا ، لا رجوع إلى الدنيا { إِنَّهَا } أى قوله رب ارجعون ، { كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } ولن تجديه شيئا ، لأنه قالها بعد فوات الأوان لنفعها ، { وَمِن وَرَآئِهِمْ } أى : ومن أمام هذا الكافر وأمثاله ، حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ، وهذا الحاجز مستمر إلى يوم البعث والنشور .
فالمراد بالبرزخ : تلك المدة التى يقضيها هؤلاء الكافرون منذ موتهم إلى يوم يبعثون .
وفى هذه الجملة الكريمة . زجر شديد لهم عن طلب العودة إلى الدنيا . وتيئيس وإقناط لهم من التفكير فى المطالبة بالرجعة ، وتهديد لهم بعذاب القبر إلى يوم القيام .
لتدارك ما فات ، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال . . وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار ، مشهود كالعيان ! فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء ، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد :
( كلا . إنها كلمة هو قائلها . . . )
كلمة لا معنى لها ، ولا مدلول وراءها ، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها . إنها كلمة الموقف الرهيب ، لا كلمة الإخلاص المنيب . كلمة تقال في لحظة الضيق ، ليس لها في القلب من رصيد !
وبها ينتهي مشهد الاحتضار . وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا . فلقد قضي الأمر ، وانقطعت الصلات ، وأغلقت الأبواب ، وأسدلت الأستار :
( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) . .
فلا هم من أهل الدنيا ، ولا هم من أهل الآخرة . إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ، إلى يوم يبعثون .
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت ، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ؛ ولهذا قال : { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا } كما قال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ المنافقون : 10 ، 11 ] ، وقال تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [ الأعراف : 53 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 27 ، 28 ] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] ، وقال تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 11 ، 12 ] ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة ، فلا يجابون ، عند الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار ، وهم في غمرات عذاب الجحيم .
وقوله : هاهنا : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : كلا حرف ردع وزجر ، أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه .
وقوله : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم .
ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله : " كلا " ، أي : لأنها كلمة ، أي : سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه ، وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ، ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وقال محمد بن كعب القرظي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } قال : فيقول الجبار : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } .
وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة : إذا سمعت الله يقول : { كَلا } فإنما يقول : كذب{[20662]} .
وقال قتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } : قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت ، فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله عز وجل .
وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة إلا بالله . وعن محمد بن كعب القرظي نحوه .
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل - يعني : ابن عياض - عن لَيْث ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني : الكافر - في قبره ، فيرى مقعده من النار . قال : فيقول : رب ، ارجعون أتوب وأعمل صالحا . قال : فيقال : قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا . قال : فيضيق عليه قبره ، قال : فهو كالمنهوش ، ينام ويفزع ، تهوي{[20663]} إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد{[20664]} . عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ! ! تدخل{[20665]} عليهم في قبورهم حيات سود - أو : دُهُم - حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا{[20666]} في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ } يعني : أمامهم .
وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة .
وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة . ليسوا{[20667]} مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم .
وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر ، لا هم في الدنيا ، ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون .
وفي قوله : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال : { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } [ الجاثية : 10 ] وقال { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ إبراهيم : 17 ] .
وقوله : { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث : " فلا يزال معذبا فيها " {[20668]} ، أي : في الأرض .
{ لعلي أعمل صالحا فيما تركت } في الإيمان الذي تركته أي لعلي آتي الإيمان وأعمل فيه ، وقيل في المال أو في الدنيا . وعنه عليه الصلاة والسلام " قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا ، فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى ، وأما الكافر فيقول رب ارجعون " . { كلا } ردع من طلب الرجعة واستبعاد لها . { إنها كلمة } معنى قوله { رب أرجعون } الخ ، والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض . { هو قائلها } لا محالة لتسلط الحسرة عليه . { ومن ورائهم } أمامهم والضمير للجماعة { برزخ } حائل بينهم وبين الرجعة . { إلى يوم يبعثون } يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة .
وقرأ الحسن والجمهور «لعلي » بسكون الياء ، وقرأ طلحة بن مصرف «لعليَ » بفتح الياء ، و { كلا } رد وزجر وهي من كلام الله تعالى ، وقوله { إنها كلمة هو قائلها } يحتمل ثلاثة معان : أحدهما الإخبار المؤكد بأن هذا الشيء يقع ويقول هذه الكلمة ، والآخر أن يكون المعنى إنها كلمة لا تغني أكثر من أن يقولها ولا نفع له فيها ولا غوث ، والثالث أن تكون إشارة إلى أنه لو رد لعاد فتكون آية ذم لهم ، والضمير في { ورائهم } للكفار أي يأتي بعد موتهم حاجز من المدة و «البرزخ » ، في كلام العرب الحاجز بين المسافتين ، ثم يستعار لما عدا ذلك فهو هنا للمدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه ، هذا إجماع من المفسرين ، و[ يوم ] مضاف إلى [ يبعثون ]{[8546]} .