{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ْ } فلم يصادفوا عندك شيئا { قُلْتَ ْ } لهم معتذرا : { لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ْ } فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم ، وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم .
فهؤلاء لا حرج عليهم ، وإذا سقط الحرج عنهم ، عاد الأمر إلى أصله ، وهو أن من نوى الخير ، واقترن بنيته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه ، ثم لم يقدر ، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام .
وقوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ . . } معطوف على ما قبله ، من عطف الخاص على العام ، اعتناء بشأنهم ، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر ، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك { لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } .
أى : لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين يجدون ما ينفقون ، إذا ما تخلفوا عن الجهاد ، وكذلك لا حرج ولا إثم - أيضاً - على فقراء المؤمنين ، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها لكى يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " .
وفى هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه ، وأفتش عليه فلا أجده ، ولو وجدته لقدمته إليكم .
وقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل : لكى يخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك .
أى : أن هؤلاء المؤمنين الفقراء ، عندما اعتذرت لهم بقولك : " لا أجد ما أحملكم عليه " انصرفوا من مجلسك ، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجاهد ، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك .
فالجملة الكريمة تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد ، وللألم الشديدة للحرمان من نعمة أدائه .
وبمثل هذه الروح ارتفعت راية الإِسلام ، وعزت كلمته ، وانتشرت دعوته .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى : 1- أن التكاليف الإِسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج ، ومن مظاهر ذلك : أن الجهاد . وهو ذروة سنام الإِسلام ، قد أعفى الله - تعالى - منه الضعفاء والمرضى والذين يجدون وسائله ومتطلباته .
قال الإِمام القرطبى : قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن شئ مسقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال . ونظير هذه الآية قوله . تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } وقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } 2- أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير . حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل ، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعى ، بشرهم النبى صلى الله عليه وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر .
قال الإِمام ابن كثير : في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً . ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم قالوا : وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر " .
وروى الإِمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم وادياً ، ولا سلكتم طريقاً ، إلا شاركوكم في الأجر ، حبسهم المرض " .
3- أن الصحابة - رضى الله عنهم - ضربوا أربوع الأمثال في الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة في القتال . .
" فهذا عبد الله بن أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء . وهذا عمرو ابن الجموح - وكان أعرج - يخرج من مقدمة الجيوش فيقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد عذرك " فيقول : " والله لأحقرن بعرجتى هذه الجنة " - أى لأتركن آثار أقدامى فيها .
ومن كان يؤتى به وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه ومع ذلك يقف في صفوف المجاهدين .
وبهذه القلوب السليمة ، والغزائم القوية والنفوس القوية والنفوس النقية التي خالط الإِيمان شغافها . . ارتفعت كلمة الحق ، وعزت كلمة الإِسلام .
( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ )
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب ، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة . فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب ، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً ، لأنهم لا يجدون ما ينفقون .
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد ، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه . وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول - [ ص ] - تختلف الروايات في تعيين أسمائهم ، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة .
روى العوفي عن ابن عباس : " وذلك أن رسول اللّه - [ ص ] - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن مغفل بن مقوى المازني ، فقالوا : يا رسول اللّه احملنا ، فقال لهم : " واللّه لا أجد ما أحملكم عليه "
فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً : فلما رأى اللّه حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه .
وقال مجاهد : نزلت في بني مقرن من مزينة .
وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف : سالم بن عوف ، ومن بني واقف : حرمي بن عمر ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى : فضل اللّه ، ومن بني سلمة : عمرو بن عتمة وعبداللّه بن عمرو والمزني .
وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - [ ص ] - وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، وعلية بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني ، وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني وحرمي بن عبد اللّه أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول اللّه - [ ص ] - وكانوا أهل حاجة : فقال : " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام ، وبمثل هذه الروح عزت كلمته . فلننظر أين نحن من هؤلاء . ولننظر أين روحنا من تلك العصبة . ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر . وإلا فلنسدد ولنقارب واللّه المستعان .
وقال مجاهد في قوله : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } نزلت في بني مقرن من مزينة .
وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عُمَيْر{[13777]} - ومن بني واقف : هَرَمي{[13778]} بن عمرو - ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب ، ويكنى أبا ليلى - ومن بني المُعَلى : [ سلمان بن صخر - ومن بني حارثة : عبد الرحمن بن يزيد ، أبو عبلة ، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه ]{[13779]} ومن بني سَلِمة : عمرو بن عَنَمة{[13780]} وعبد الله بن عمرو المزني .
وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عُمَير{[13781]} وعلبة بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، أخو بني سَلِمة ، وعبد الله بن المُغَفَّل المزني ؛ وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وهَرَميّ بن عبد الله ، أخو بني واقف ، وعِرْباض{[13782]} بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون{[13783]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي ، حدثنا وَكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد خلفتم بالمدينة أقواما ، ما أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم واديا ، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر " ، ثم قرأ : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } الآية .
وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث{[13784]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم [ مسيرًا ]{[13785]} إلا وهم معكم " . قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : " نعم ، حبسهم العذر " {[13786]} وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد خلفتم بالمدينة رجالا{[13787]} ما قطعتم واديًا ، ولا سلكتم طريقًا إلا شَركوكم في الأجر ، حبسهم المرض " .
ورواه مسلم ، وابن ماجه ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[13788]}
{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } عطف على { الضعفاء } أو على { المحسنين } ، وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك ، فقال عليه السلام : " لا أجد ما أحملكم " عليه فتولوا وهم يبكون . وقيل هم بنو مقرن معقل وسويد والنعمان . وقيل أبو موسى وأصحابه . { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } حال من الكاف في { أتوك } بإضمار قد . { تولّوا } جواب إذا . { وأعينهم تفيض } تسيل . { من الدّمع } أي دمعا فإن من للبيان وهي مع المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنه يدل على أن العين صارت فياضا . { حزنا } نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله . { ألا يجدوا } لئلا يجدوا متعلق ب { حزنا } أو ب { تفيض } . { ما ينفقون } في مغزاهم .
{ إنما السبيل } بالمعاتبة . { على الذين يستأذنوك وهم أغنياء } واجدون الأهبة . { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } استئناف إيثارا للدعة . { وطبع الله على قلوبهم } حتى غفلوا عن وخامة العاقبة . { فهم لا يعلمون } مغبته .
وقوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك } الآية ، اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في عرباض بن سارية ، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل ، وقيل في عائذ بن عمرو ، وقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه ، وقيل في بني مقرن ، وعلى هذا جمهور المفسرين ، وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى ، فهم البكاؤون وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن من بني مازن بن النجار ، وسليمان بن صخر من بني المعلى ، وأبو ُرَعْيلة عبد الرحمن بن زيد من بني حارثة وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائد بن عمرو المزني ، وقيل عبد الله بن عمرو المزني قال هذا كله محمد بن كعب القرظي ، وقال مجاهد : البكاؤون هم بنو مكدر من مزينة .
ومعنى قوله : { لتحملهم } أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث ، وقال بعض الناس : إنما استحملوه النعال ، ذكره النقاش عن الحسن بن صالح ، وهذا بعيد شاذ ، والعامل في { إذا } يحتمل أن يكون { قلت } ، ويكون قوله { تولوا } مقطوعاً .
ويحتمل أن يكون العامل { تولوا } ويكون تقدير الكلام فقلت ، أو يكون قوله { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } بمنزلة وجدوك في هذه المحال .
وفي الكلام اختصار وإيجاز ولا يدل ظاهر الكلام على ما اختصر منه ، وقال الجرجاني في النظم له إن قوله { قلت } في حكم المعطوف تقديره وقلت ، و { حزناً } نصب على المصدر ، وقرأ معقل بن هارون «لنحملهم » بنون الجماعة .