{ 12 - 15 ْ } { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ }
يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ْ } أي : نقضوها وحلوها ، فقاتلوكم أو أعانوا على قتالكم ، أو نقصوكم ، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ْ } أي : عابوه ، وسخروا منه .
ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين ، أو إلى القرآن ، { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ْ } أي : القادة فيه ، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن ، الناصرين لدين الشيطان ، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم ، ولأن غيرهم تبع لهم ، وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه ، فإنه من أئمة الكفر .
{ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ْ } أي : لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها ، بل لا يزالون خائنين ، ناكثين للعهد ، لا يوثق منهم .
{ لَعَلَّهُمْ ْ } في قتالكم إياهم { يَنْتَهُونَ ْ } عن الطعن في دينكم ، وربما دخلوا فيه ، ثم حث على قتالهم ، وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف ، التي صدرت من هؤلاء الأعداء ، والتي هم موصوفون بها ، المقتضية لقتالهم فقال :
أما إن كانت الآخرى ، أى إذا لم يتوبوا وصاروا على عداوتهم ، فقد بين سبحانه . ما يجب على المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } .
أى : وإن نقضوا عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها .
وقوله : { نكثوا } من النكث بمعنى النقض والحل . يقال نكث فلان الحبل إذا نقض فتله وحل خيوطه ومنه قوله - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } معطوف على ما قبله . أى : وعابوه وانتقضوه .
وقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أى : فقاتلوهم فهم أئمة الكفر ، وحملة لوائه . فوضع - سبحانه - الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم .
وقيل : المراد بأئمة الكفر رؤسائهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين ، ويقودونهم لقتال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وعطف . سبحانه - قوله { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم ، لزيادة تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم .
وقوله : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة صادقة ، وقلوب ثابتة ، لأنهم قوم لا أيمان عهود لهم الحقيقة ، لأنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان .
وقرأ ابن عامر { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } - بكسر الهمزة . على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان . أى أنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم . أو المراد الإِيمان الشرعى . أى إنهم لا تصديق ولا دين لهم ، ومن كان كذلك فلا وفاء له .
وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } .
أى : ليكن مقصدكم من مقاتلتهم - بعد أن وجد منهم ما وجد إيذائكم الرجاء في هدايتهم ، والانتهاء عن كفرهم وخيانتهم . . واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق - ما يأتى :
1- أن ما ذكرته الآيات من كون المشركين ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يقرر حقيقة واقعة ، ومن الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين - وخاصة مسلمى بغداد . سنة 656 . وما فعله الوثنيون الهنود مع مسلمى باكستان ، وما فعله الشيوعيون .
( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ )
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه ، وطعن في دين المسلمين . فهم إذن أئمة في الكفر ، لا أيمان لهم ولا عهود . وعندئذ يكون القتال لهم ؛ لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى . . كما سبق أن قلنا : إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوبا كثيرة إلى الصواب ؛ وتريهم الحق الغالب فيعرفونه ؛ ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق ؛ ولأن وراءه قوة الله ؛ وأن رسول الله [ ص ] صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله . فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى . لا كرها وقهرا ، ولكن اقتناعا بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب . كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين .
وبعد . . فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص ? ما المدى التاريخي والبيئي ? أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد ? أم إن لها أبعادا أخرى في الزمان والمكان ?
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين . وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع . وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركوا الجزيرة . .
هذا حق في ذاته . . ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص ?
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين - على مدى التاريخ - من المؤمنين . ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية ؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ :
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة . ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة .
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى . ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة :
( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ! يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ) . .
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين . فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة ؛ وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ . .
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد [ ص ] إنما ختم بهذه الرسالة . وأنموقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق ؛ فإن أبعاد المعركة تترامى ؛ ويتجلى الموقف على حقيقته ؛ كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة ، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء !
ماذا صنع المشركون مع نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وشعيب ، وموسى ، وعيسى ، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم ? ثم ماذا صنع المشركون مع محمد [ ص ] والمؤمنين به كذلك ? . . إنهم لم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم . .
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار ? ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان ? . . . إنهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد . .
عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ " البداية والنهاية " لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656ه :
" ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان . ودخل كثير من الناس في الآبار ، وأماكن الحشوش ، وقنى الوسخ ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون . وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ، ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار ، إما بالكسر وإما بالنار ، ثم يدخلون عليهم ، فيهربون منهم إلى أعالى الأمكنة ، فيقتلونهم بالأسطحة ، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة - فإنا لله وإنا إليه راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط . ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي ، وطائفة من التجار أخذوا أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم . وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ، ليس فيها إلا القليل من الناس ، بوقوعه : وهم في خوف وجوع وذلة وقلة . .
" وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة . فقيل ثمانمائة ألف . وقيل : ألف ألف . وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم . وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما . . وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر ، وعفى قبره ، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر . ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام . وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد ، وله خمس وعشرون سنة . ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبدالرحمان وله ثلاث وعشرون سنة ، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم . .
" وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي ، وكان عدو الوزير ؛ وقتل أولاده الثلاثة : عبدالله وعبدالرحمن وعبدالكريم ، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد . منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك ، وشهاب الدين سليمان شاه ، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد . . وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس ، فيخرج بأولاده ونسائه ، فيذهب إلى مقبرة الخلال ، تجاه المنظرة ، فيذبح كما تذبح الشاة ، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه . . وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار . وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن . وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد . .
" ولما انقضى الأمر المقدر ، وانقضت الأربعون يوما ، بقيت بغداد خاوية على عروشها ، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس ، والقتلى في الطرقات كأنها التلول ، وقد سقط عليهم المطر ، فتغيرت صورهم ، وأنتنت من جيفهم البلد ، وتغير الهواء ، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام ، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون . فإنا لله وإنا إليه راجعون . .
" ولما نودي ببغداد بالأمان ، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ؛ وقد أنكر بعضهم بعضا ، فلا يعرف الوالد ولده ، ولا الأخ أخاه ، وأخذهم الوباء الشديد . فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى . . " الخ الخ .
هذه صورة من الواقع التاريخي ، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة . فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات ، اختص بها التتار في ذلك الزمان ?
كلا ! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة ّ ! . . إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد . . إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط ! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق . . طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية ، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق ، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش ، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة ، لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد ! . . . أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان ، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف . . ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى [ ممر خيبر ] . . وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار ! . . لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة ، القطار في النفق . ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء ! . . وصدق قول الله سبحانه : ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) . . وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى .
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك ? . . . لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا . . بمعدل مليون في السنة . . وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق . . ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان . وفي هذا العام وقع في القطاع الصينيمن التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار . . لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين ، فحفرت له حفرة في الطريق العام . وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب ، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية [ التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتسخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام ! ! ! ] فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته . . وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات !
كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها . حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم . وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالا ونساء في " مفارم " اللحوم التي تصنع لحوم [ البولوبيف ] ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية . . الآن . . في هذا الزمان . . ويصدق قول الله سبحانه : ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ? ) . ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ) . .
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية . ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد . . إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية ؛ حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده ؛ ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله . في كل زمان وفي كل مكان .
ومن ثم فإن تلك النصوص - وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة ، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة - إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان . لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائما في كل زمان وفي كل مكان . والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية ، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان . .
يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم ، أي : عهودهم ومواثيقهم ، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه وانتقصوه . ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص ؛ ولهذا قال : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } أي : يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال .
وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ، وأمية بن خلف ، وعدد رجالا .
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد برجل من الخوارج ، فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر . فقال سعد : كذبت ، بل أنا قاتلت أئمة الكفر . رواه ابن مردويه .
وقال الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة أنه قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد .
وروى عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، مثله .
والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم ، والله أعلم .
وقال الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير : أنه كان في عهد أبي بكر ، رضي الله عنه ، إلى الناس حين وجههم إلى الشام ، قال : إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم ، وذلك بأن الله يقول : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رواه ابن أبي حاتم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم، أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم "وَطَعَنُوا فِي دينِكُمْ "يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام، فثلموه وعابوه. "فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ" يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله. "إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ" يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم. "لَعَلّهُمْ يَنْتَهُونَ" لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم...
عن حذيفة في قوله: "فَقاتِلُوا أئمّةَ الكُفْرِ إنّهُمْ لا أيمَانَ لَهُمْ" قال: لا عهد لهم.
وأما النكث فإن أصله: النقض... والأيمان: جمع اليمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر) وتخصيص الأمر بمقاتلة الأئمة، لما أن الأتباع أبدا يقلدون الأئمة ويصدرون عن آرائهم وتدبيرهم، فإذا قاتلوهم اتبع الأتباع فلهم.والثاني: لنفي الشبه أن ليس الأئمة منهم كأصحاب الصوامع، وإن كانوا هم أئمة في العبادة، فلا يترك مقاتلتهم كما يترك مقاتلة أصحاب الصوامع قد عزلوا أنفسهم عن الناس عن جميع المنافع، وحبسوها للعبادة، والأئمة ليسوا كذلك. والثالث: خص الأئمة بالقتال لأنهم إذا قتلوهم لم يبق لهم إمام في الكفر، فيذهب الكفر رأسا...
فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً مما عُوهِدُوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد؛ وذلك لأن نَكْثَ الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي، ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وأن أهل الذمّة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين، وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شَتْمَ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
أمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا. وهذا عموم يوجب الانتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال، وهذا يقتضي – ولا بد – أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده، ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى: {لعلهم ينتهون} انتهاء دون انتهاء، فيكون فاعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به، وهذا حرام، قال الله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "وطعنوا في دينكم "فالطعن هو: الاعتماد بالعيب...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
يدل على أن المعاهد لا يقتل في عهده ما لم ينكث، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتالهم على وجودهما، فان النكث يقتضي ذلك بانفراده عقلاً وشرعاً. فالمراد به على هذا الوجه التمييز في الجمع، وتقديره: فإن نكثوا حل قتالهم وإن لم ينكثوا وطعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. فإن قيل: فلم قال: فقاتلوا أئمة الكفر؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم؟ الجواب: أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلاً ورأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون. قوله تعالى: {لَعَلّهُم يَنْتَهُون}: أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله: {لعلّهُم يَنْتَهُون}، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم بإظهار الإسلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} وثلبوه وعابوه {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً، جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة. {إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ}... فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيْمان في قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أيْمانهم} ثم نفاها عنهم؟ قلت: أراد أيْمانهم التي أظهروها، ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة، وأيْمانهم ليست بأيْمان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وطعنوا في دينكم} أي بالاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ كَافِرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَنْسِبُ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ من الدِّينِ؛ لِمَا ثَبَتَ من الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ...} إلَى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ.
وَالثَّانِي: طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ.
قُلْنَا: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ، بَلْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَرَمَحَتْ، فَأَسْقَطَتْهَا، فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ...
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه، ومنه قوله تعالى: {من بعد قوة أنكاثا}. والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يمينا ليمين البر فيه. فقوله: {وإن نكثوا أيمانهم} أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان:
الأول: هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان، ولذلك قرأ بعضهم {وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم} والأول أولى للقراءة المشهورة، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد.
وقوله: {وطعنوا في دينكم} يقال طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيئ يطعن. قال الليث: وبعضهم يقول: يطعن بالرمح، ويطعن بالقول: فيفرق بينهما، والمعنى أنهم عابوا دينكم، وقدحوا فيه.
ثم قال: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا...
قال الزجاج: هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم.
ثم قال تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر {لا إيمان لهم} بكسر الألف ولها وجهان: أحدها: لا أمان لهم، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة، والثاني: أنهم كفرة لا إيمان لهم، أي لا تصديق ولا دين لهم، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يمينا، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث.
ثم قال تعالى: {لعلهم ينتهون} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه من الكفر، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
المعنى: وإن نكث هؤلاء المشركون ما أبرمته أيمانهم أو ما أقسموا عليه أيمانهم من الوفاء بعد عهدهم الذي عقدوه معكم.
{وطعنوا في دينكم} أي عابوه وثلبوه بالاستهزاء به وصد الناس عنه وهو الذي عابه عليهم في الآيات المقابلة لهذه، ومنه الطعن في القرآن وفي النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم، فهذا العطف بيان للواقع وإيذان بأن الطعن في الإسلام ضرب من ضروب نكث الأيمان، ونقض السلم والولاء، كالقتال ومظاهرة الأعداء، فهو من عطف الخاص على العام، وليس المراد به تقييد حل قتالهم بالجمع بين الأمرين، بل هو كقوله: {ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4].
{فقاتلوا أئمة الكفر} أي قادة أهله وحملة لوائه، فوضع الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع ضميرهم، وقيل: إن المراد بأئمة الكفر رؤساء المشركين وصناديدهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويقوونهم لقتاله، وذكر بعض من قال هذا منهم أبا سفيان وأبا جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ممن كان قتل في بدر أو بعدها، وذلك من الغفلة بمكان لأن السورة نزلت بعد غزوة تبوك وبعد فتح مكة وفي أثنائه أسلم أبو سفيان، وهذه الأحكام إنما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها في يوم النحر من سنة تسع كما تقدم. وحملها بعضهم على الخوارج، وبعضهم على فارس والروم، وبعضهم على المرتدين بجعل الضمائر فيها راجعة إلى الذين تابوا وأقاموا الصلاة الخ، واختاره الزمخشري إذ قال في تفسير {فقاتلوا أئمة الكفر}: فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم، وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة اه.
ولا أدري ما الذي حمل هؤلاء المفسرين على إخراج الآية عن ظاهرها حتى إنهم رووا عن علي وحذيفة رضي الله عنهما أنهما قالا: ما قوتل أهل هذه الآية بعد، يعنون أنها نزلت في قوم يأتون بعد، وزعم بعضهم أنهم الدجال وقومه من اليهود، والحق أنها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم، ويدخل في حكمها كل من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم. فكل من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم والطعن في دينهم فيجب عده من أئمة الكفر ولهم حكمهم، ومن لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى وأظلم ممن ينكثون الأيمان، وذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا وبلادنا وبث الدعاة فيها للطعن في ديننا لصدنا عنه واستبدال دينهم به، أو جعلنا معطلين لا دين لهم.
وقد علل تعالى الأمر بقتالهم بقوله: {إنهم لا أيمان لهم} أي إن عهودهم كلا عهود، لأنها مخادعة لسانية لم يقصدوا الوفاء بها {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11] فهم ينقضونها في أول وهلة يستطيعون فيها ذلك بالظهور أو المظاهرة عليكم...
{لعلهم ينتهون} أي قاتلوهم راجين بقتالكم إياهم أن ينتهوا عن كفرهم وشركهم وما يحملهم عليه من نكث أيمانهم ونقض عهودهم والضراوة بقتالكم كلما قدروا عليه، وهو يتضمن النهي عن القتال اتباعا لهوى النفس أو إرادة منافع الدنيا من سلب وكسب وانتقام محض بالأولى، وتقدم نظيره في تفسير {فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} [الأنفال: 57] وهذا مما امتاز به الإسلام على جميع شرائع الأمم وقوانينها من جعل الحرب ضرورة مقيدة بإرادة منع الباطل، وتقرير الحق والفضائل.
واستدل الحنفية بالآية على أن يمين الكافر لا تنعقد، ولو كان كذلك لما وجب علينا الوفاء لمن وفى بها منهم واستقام على وفائه، والآيات صريحة في الوجوب، وإنما نفاها عن الناكثين، وأعلمنا أنهم كانوا عازمين على النكث من أول وهلة وهو علام الغيوب، ولو لم يكن لهم أيمان على الإطلاق لما كان لهم نكث، وقد أثبتتهما لهم الآية التالية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه، وطعن في دين المسلمين. فهم إذن أئمة في الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود. وعندئذ يكون القتال لهم؛ لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى.. كما سبق أن قلنا: إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوبا كثيرة إلى الصواب؛ وتريهم الحق الغالب فيعرفونه؛ ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق؛ ولأن وراءه قوة الله؛ وأن رسول الله [ص] صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله. فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى. لا كرها وقهرا، ولكن اقتناعا بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب. كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين.
وبعد.. فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعادا أخرى في الزمان والمكان؟
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين. وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع. وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة..
هذا حق في ذاته.. ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين -على مدى التاريخ- من المؤمنين. ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة. ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة.
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة:
(كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة! يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم، وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون)..
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين. فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة؛ وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ..
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد [ص] إنما ختم بهذه الرسالة. وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق؛ فإن أبعاد المعركة تترامى؛ ويتجلى الموقف على حقيقته؛ كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!
ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد [ص] والمؤمنين به كذلك؟.. إنهم لم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟... إنهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد...
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية...
إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية؛ حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده؛ ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله. في كل زمان وفي كل مكان.
ومن ثم فإن تلك النصوص -وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة- إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان. لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائما في كل زمان وفي كل مكان. والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان..
... وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، أي: أن القتل يأتي أولا [على] زعماء الكفار الذين يحرضون أتباعهم على محاربة دين الله، فالأتباع ليسوا هم الأصل، ولكن أئمة الكفر؛ لأنهم هم الذين يخططون وينفذون ويحرضون وهم- كما يقال في العصر الحديث- مجرمو حرب؛ والعالم كله يعرف أن الحرب تنتهي متى تخلص من مجرمي الحرب؛ لأن هؤلاء هم الذين يضعون الخطط ويديرون المعارك ويقودون الناس إلى ميادين القتال، تماما كأئمة الكفر، هؤلاء الذين اجترأوا على أساليب القرآن الكريم، ومنعوا القبائل التي تأتي للحج من الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا الدين بكل السبل من إغراء وتحريض، وتهديد ووعيد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويستمر الموقف في مواجهة القضية بطريقة الحسم، فهناك خطرٌ مباشرٌ يواجه الواقع الإسلامي آنذاك، من خلال هؤلاء الذين ينقضون العهد، ويتحدَّون الإسلام في فكره وشريعته، ما يخلق للمسيرة الإسلامية الكثير من حالة الإرباك والفوضى والقلق، ولذلك كانت التعليمات واضحة، بردّ الاعتداء الصادر من هؤلاء، وذلك بإعلان الحرب عليهم من جديد، واعتبار المعاهدات لاغيةً بسبب تصرفاتهم السلبية ضد الإسلام والمسلمين، والإيحاء بأن القضية لا تحتمل المهادنة والتأخير، لأن الخلفيات الكامنة وراء تصرفاتهم، تمثل الخطر الكبير على المستقبل، من جرّاء الروحيّة الحاقدة التي تتحرك في داخلهم في الحاضر، كما كانت في تاريخهم القريب، في الماضي، وهذا هو ما حاولت الآيات أن تثيره في وجه هذه التصرفات، في أسلوب يعتمد على توعية المسلمين، وتوجيههم نحو التأكيد على دراسة القضايا من جميع وجوهها، لا من وجهٍ واحد...