ثم قال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } أي : كيف تكون تلك الأحوال ، وكيف يكون ذلك الحكم العظيم ، الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم ، كاملُ العدل ، كامل الحكمة ، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه ؟ " فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها .
ثم نبه - سبحانه - هؤلاء الكافرين إلى ما سيكونون عليه من حال سيئة يوم القيامة إذا استمروا فى كفرهم فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } .
قال الفخر الرازى : وجه النظم هو أنه - تعالى - بين أن فى الآخرة لا يجرى على أحد ظلم ، وأنه - تعالى - بجازى المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه . فبين فى هذه الآية - وهو قوله - تعالى - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } أن ذلك يجرى بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسئ أبلغ . والتبكيت له أعظم . وحسرته أشد . ويكون سرور من قبل من الرسول وأظهر الطاعة أعظم . ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ووعداً للمطيعين الذين قال فيهم { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } .
والفاء فى قوله " فكيف " للإِفصاح عن شرط مقدر نشأ من الكلام السابق وكيف فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والتقدير : إذا أيقنت بما أخبرناك به أيها الرسول الكريم أو أيها السامع من أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما فكيف سيكون حال هؤلاء الكفرة إذا ما جئنا من كل أمة من الأمم السابقة بشهيد يشهد عليهم بما ارتكبوه من سوء الصنيع وقبح الأعمال ، وهذا الشهيد هو نبيهم الذى أرسله الله لهدياتهم ، وجئنا بك يا محمد شهيداً على هؤلاء الذين بعثك الله لإِخراجهم من الظلمات إلى النور فكذبوك واستحبوا العمى على الهدى .
لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال ، ومصيرهم سيكون أقبح مصير ، بسبب كفرهم وبخلهم وريائهم واتباعهم للهوى والشيطان .
ومن العلماء من يرى أن المراد بقوله - تعالى - { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } أى جئنا بك يا محمد شهيداً على هؤلاء الأنبياء بأنهم قد بلغوا رسالة الله ولم يقصروا فى نصيحة أقوامهم .
والذى نراه أولى هو أن شهادة النبى صلى الله عليه وسلم تشمل كل ذلك أى تشمل شهادته على قومه بأنه قد بلغهم رسالة الله ، وشهادته للأنبياء السابقين بأنهم نصحوا لأقوامهم وبلغوا رسالة ربهم ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله تعالى - من المنزلة العالية ما لم يعط أحدا سواه .
روى الشيخان وغيرهما " عن عبد الله بن مسعود قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ على شيئا من القرآن . فقلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل قال : نعم . إنى أحب أن اسمعه من غيرى . فقرأت عليه سورة النساء : حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } الآية فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان " .
ثم يختم الأوامر والنواهي ، والتحضيض والترغيب ، بمشهد من مشاهد القيامة ؛ يجسم موقفهم فيه ، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة . . على طريقة القرآن في مشاهد القيامة :
( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثًا . . )
إنه يمهد لمشهد القيامة ، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة . . وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعره . . وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما . . فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة ؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل ، بالإيمان والعمل . .
فأما هؤلاء . هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا ، ولم يقدموا عملا . . هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل . . فكيف يكون حالهم يومذاك ؟ كيف يكون الحال ، إذا جئنا من كل أمة بشهيد - هو نبيها الذي يشهد عليها - وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟
وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين{[7515]} يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ]{[7516]} } [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]{[7517]} } [ النحل : 89 ] .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يُوسُفَ ، حدثنا سفيانُ ، عن الأعْمَشِ ، عن إبراهيمَ ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ ؟ قال : " نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال : " حسبك الآن " فإذا عيناه تَذْرِفَان .
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش ، به{[7518]} وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رَزِين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو{[7519]} بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري ، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب{[7520]} لحياه وجنباه ، فقال : " يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ " {[7521]} .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " .
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في " التذكرة " {[7522]} حيث قال : باب{[7523]} ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة ، فيعرفهم بأسمائهم{[7524]} وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [ قد تقدم ]{[7525]} أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة . قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هََؤُلآءِ شَهِيداً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة ، فكيف بهم { إذا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بَشِهيدٍ } يعني : بمن يشهد عليها بأعمالها ، وتصديقها رسلها ، أو تكذيبها ، { وجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } يقول : وَجِئْنَا بك يا محمد على هؤلاء : أي على أمتك شهيدا ، يقول : شاهدا . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : إن النبيين يأتون يوم القيامة ، منهم من أسلم معه من قومه الواحد والاثنان والعشرة وأقلّ وأكثر من ذلك ، حتى يؤتى بقوم لوط صلى الله عليه وسلم لم يؤمن معه إلا ابنتاه ، فيقال لهم : هل بلغتم ما أرسلتم به ؟ فيقولون : نعم ، فيقال : من يشهد ؟ فيقولون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقال لهم : أتشهدون أن الرسل أوْدَعوا عندكم شهادة ، فبم تشهدون ؟ فيقولون : ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ ! فيقال : من يشهد على ذلك ؟ فيقولون : محمد صلى الله عليه وسلم . فيدعى محمد عليه الصلاة والسلام ، فيشهد أن أمته قد صدقوا ، وأن الرسل قد بلّغوا . فذلك قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : رسولها ، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم¹ { وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتى عليها فاضت عيناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسن ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، في قوله : { وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : الشاهد محمد ، والمشهود : يوم الجمعة . فذلك قوله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن عبد الله : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن المسعودي ، عن القاسم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود : «اقْرأْ عَليّ ! » قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : «أنّي أُحِبّ أنْ أسَمعه مِنْ غيرِي » . قال : فقرأ ابن مسعود النساء ، حتى بلغ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا } قال : قال استعبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكفّ ابن مسعود . قال المسعودي : فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فإذَا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلْ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة ، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها ، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم ، ومعنى الآية : أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ومعنى «الأمة » في هذه الآية : غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء ، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي ، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر ، وكذلك قال المتأولون : إن الإشارة «بهؤلاء » إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و { كيف } في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية : ترى حالهم ، أو يكونون ، أو نحوه ، وقال مكي في الهداية : { جئنا } عامل في «كيف » ، وذلك خطأ ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور{[4049]} ، وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل ، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي ، كسؤال اللوح المحفوظ ، ثم إسرافيل ثم جبريل ، ثم الأنبياء ، فليست هذه آيته ، وإنما آيته { لتكونوا شهداء على الناس }{[4050]} .
الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } [ النساء : 37 ] وقوله : { فساء قريناً } [ النساء : 38 ] ؛ وعن التوبيخ في قوله : { وماذا عليهم } [ النساء : 39 ] وعن الوعد في قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] الآية ، والتقدير : إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّىء ، وعلى هذا فليس ضميرُ ( بكَ ) إضماراً في مقام الإظهار ، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] ، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد ؛ فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر ، وعلى هذا فضمير { بك } واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة ، فيقتضي أن يقال : وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً ، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه .
والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم ، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو : كيف أولئك ، أو كيف المَشْهَد ، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة ، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً ، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه ، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه ، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه ، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام : ليعمّ الأمرين . والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب ، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم } في سورة آل عمران ( 25 ) .
( وإذا ) ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة { جئنا } أي زمان إتياننا بشهيد . ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل ( 89 ) { ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة ، والظرف معمول ل ( كيف ) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب ، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان :
وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍ *** إذا رَاح أصحابي ولستُ برائح
والمجروران في قوله : { من كل أمة } وقوله : { بشهيد } يتعلّقان ب ( جئنا ) . وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 25 ] .
وشهيد كلّ أمّة هو رسولها ، بقرينة قوله : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } .
و { هؤلاء } إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة ، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه ، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة ( هؤلاء ) مراداً بها المشركون ، وهذا معنى ألهمنا إليه ، استقريْناه فكان مطابقاً .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } [ النساء : 37 ] وهم المشركون والمنافقون ، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم ، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين . ومن أضعف الاحتمالات أن يكون { هؤلاء } إشارة إلى الشهداء ، الدالّ عليهم قوله : { كل أمةٍ بشهيد } وأن ورد في « الصحيح » حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه فَيشهد محمّد صلى الله عليه وسلم بصِدقه ، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصودَ من هذه الآية .
وذُكر متعلّق ( شهيدا ) الثاني مجروراً بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم ، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة .
وفي « صحيح البخاري » : أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ عليّ القرآن ، قلت : أقْرَأهُ عليك وعليكَ أنْزِل ، قال : إني أحِبّ أنْ أسْمَعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء ، حتّى إذا بلغتُ { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } ، قال : { أمسِك } فإذا عينَاه تذرفان . وكما قلت : إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا : لا فِعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه دلالة على شعور مجتمععٍ فيه دلائلُ عظيمة : وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم ، وتصديقِ المؤمنين إيّاه في التبليغ ، ورؤيةِ الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته ، والأسفِ على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه ، ومشاهدةِ ندمهم على معصيته ، والبكاء ترجمانُ رحمةٍ ومسرّة وأسف وبهجة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال تعالى: {فكيف} بهم {إذا جئنا من كل أمة بشهيد}، يعني نبيهم، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم، {وجئنا بك} يا محمد {على هؤلاء شهيدا}: يعني كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة، فكيف بهم {إذا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بَشِهيدٍ}: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلها، أو تكذيبها. {وجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا}: وَجِئْنَا بك يا محمد على هؤلاء: أي على أمتك شهيدا، يقول: شاهدا... حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: «اقْرأْ عَليّ!» قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إنّي أُحِبّ أنْ أسَمعه مِنْ غيرِي». قال: فقرأ ابن مسعود النساء، حتى بلغ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: قال استعبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكفّ ابن مسعود. قال المسعودي: فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ، فإذَا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلْ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فكيف "لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ. والتقدير فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما جاز خروج كيف عن الاستفهام إلى التوبيخ لأنه يقتضي إقرار العبد على نفسه بما كان من قبيح عمله، كما يقتضي الجواب في الاستفهام...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) معناه: فكيف الحال إذا جئنا من كل أمة بشهيد؟ وأراد بالشهيد من كل أمة نبيها، وشهيد هذه الأمة: نبينا صلى الله عليه وسلم... واختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل يشهد على من لم يره؟ منهم من قال: إنما يشهد على من رآه، والصحيح: أنه يشهد على الكل، على من رأى، وعلى من لم ير...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم...، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور...
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: {وإن تك حسنة يضاعفها}.
من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، وإذا جاء وقت كذا؟
فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم».
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعدما جاء بالوعد والوعيد في الآية السابقة، جاء بهذه الآية معطوفة بالفاء، فهو يقول إذا كان الله لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة، فكيف يكون حال الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم الأنبياء فما من أمة إلا ولها بشير ونذير.
هذه الشهادة هي التي غفل عنها الناس وبكى لها النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر بعض الصحابة بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالقرآن.
هذه الشهادة يوم يجمع الله الناس مع أنبيائهم هي عبارة عن مقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم.
تعرض أعمال كل أمة على نبيها لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين وسائر أتباع الأنبياء، فمن شهد لهم نبيهم بعد معرفة أعمالهم وظهورها بأنهم على ما جاء به وعمل وأمر الناس بالعمل به فهم الناجون.
إن كل أمة من أتباع الأنبياء تدعي إتباع نبيها وإن كانت قلوبهم مملوءة بالحقد والحسد والغل وأعمالهم كلها شرورا ومفاسد عليهم وعلى الناس، فهؤلاء يتبرأ الأنبياء منهم وإن ادعوا هم إتباعهم والانتماء إليهم.
وقد اختلفوا في المراد بقوله: {على هؤلاء شهيدا} قيل إن المراد به شهادة خاتم المرسلين على المرسلين قبله فهم يشهدون على أممهم وهو يشهد عليهم وقيل هي شهادته على أمته وهذا هو الموافق لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة:142] والخطاب للمؤمنين في عصر التنزيل وقد تقدم في تفسيره أن هذه الأمة تكون بسيرتها شهيدة على الأمم السابقة وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، وأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يكون بسيرته العالية وسنته المعتدلة حجة على المفرطين والمفرّطين من أمته اتباعا للبدع الطارئة المحدثة من بعده، فراجع تفصيل ذلك في أول الجزء الثاني من التفسير.
وأما الحديث الذي أشار إليه الأستاذ فهو ما روى أحمد والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (نعم أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} الخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان 79. فليت شعري هل يعتبر المسلمون بهذا وهم المشهود عليهم كما اعتبر الشهيد الأعظم فيبكون لتذكر ذلك اليوم كما بكى، ويستعدون باتباع سنته، واجتناب جميع البدع والتقاليد الدينية التي لم تكن في عهده، لأن يكونوا كأصحابه أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في أمور الجسد ولا في أمور الروح أم يظلون سادرين في غلوائهم، مقلدين لآبائهم، ألا يعلمون كيف يكون حال الكافرين والعاصين في ذلك اليوم؟.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا! يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثًا..) إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعره.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل...
. فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا، ولم يقدموا عملا.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد -هو نبيها الذي يشهد عليها- وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون. والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود. والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحري المستقصي الذي لا يترك حقا لم يبينه.
ومعنى قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}: أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان. وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)} (فاطر)، وقال تعالى {...وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) (الإسراء).
وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، فقال بعض المفسرين: إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال.
هذا هو القول الأول_ والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أكثر الأمم عددا؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا؛ إذ دينه لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم، وهو نور الله تعالى الباقي إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} (الحجر) وإن الكثيرين على الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له شهادتان إحداهما شهادة للرسالات السابقة بالصدق والبيان، وقد اطلع على الشهادة المسلمون ببيان القرآن، والثانية شهادته على أمته، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (143)} (البقرة) وإن تلك منزلة عالية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعظم أمر هذه الشهادة...
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}. وساعة تسمع كلمة "كيف "فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب "كيف "ومثال ذلك قوله الحق: {كيف تكفرون بالله} (من الآية 28 سورة البقرة). وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا: كيف جاءت هذه؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول: فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العصاة، في يوم العرض الأخير، {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} و "الشهيد" هو: الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (من الآية 24 سورة فاطر)...
والحق سبحانه وتعالى يوضح: أن حال هؤلاء سيكون فظيعا حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، و ويقولون: إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضا سنكون شهداء: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (من الآية 143 سورة البقرة). وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبدا بعد رسول الله، فيقول: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة...
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا به على هؤلاء شهيدا) فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع". فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة بأمته؛ ولذلك قلنا: إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين3} (سورة الشعراء). فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جدا على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له: أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر...