{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }
أي : دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة ، أي : طاهرة الأخلاق ، طيبة الآداب ، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم . فاستجاب له دعاءه .
ولقد كان ما رآه زكريا - عليه السلام - من أحوال مريم من الأسباب التي جعلته - وهو الشيخ الهرم - يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة ، وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال - تعالى - : { هُنَالِكَ دَعَا . . . . }
قوله - تعالى - { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } كلام مستأنف ، وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك مع ما فى إيرادها من تقرير ما سيقت له قصة مريم و أمها من بيان اصطفاء آل عمران .
و " هنا " ظرف يشار به إلى المكان القريب كما فى قوله - تعالى - { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وتدخل عليه اللام والكاف " هنالك " أو الكاف وحدها " هناك فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا .
والمعنى : فى ذلك المكان الطاهر الذي كان يلتقي فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغرائب ، تحركت في نفس زكريا عاطفة الأبوة ، وهو الشيخ الكبير الذى وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً ، وبلغ من الكبر عتياً - فدعا الله تعالى - بقلب سليم ، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة ، أن يرزقه الذرية الصالحة . ولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال : { قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } .
أى ، قال زكريا مناجيا ربه : يا رب أنت الذى خلقتني ، وأنت الذى لا يقف أمام قدرتك شيء ، وأنت الذى جعلتني أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لي يا خالقي من عندك ذرية صالحة تقر بها عينى ، وتكون خلفا من بعدى { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } أى أنك عليم بدعائي علم من يسمع ، قريب الإجابة لمن يدعوك ، فإن أجبت لى سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه ، فبعدلك وحكمتك . فأنت ترى في هذا الدعاء الذى صدر عن زكريا - عليه السلام - أسمى ألوان الأدب والخشوع والإنابة . فقد رفع أكف الضراعة في مكان مقدس طاهر ، وفي التعبير بقوله { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } إشارة إلى تسليمه لله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شىء ، فهو الذى خلقه ورباه وتولاه برعايته في كل أدوار حياته .
وفى قوله { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } إشعار بأنه يريد من خالقه - عز وجل - أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى ، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر فى هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعداً إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التي يحصل فيها الانجاب في العادة .
أي هب لي من عندك لا من عندى ، لأن الأسباب عندى أصبحت مستبعدة . وفي تقييد الذرية بكونها طيبة ، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه ، ونقاء سريرته ، وحسن صلته بربه ، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير في الدنيا والآخرة .
وجملة { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } تعليلية ، أي إني ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مخيب للرجاء .
قال القرطبي ما ملخصه " دلت هذه الآية على طلب الولد وهى سنة المرسلين والصديقين . قال الله - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } وقد ترجم البخارى على هذا " باب طلب الولد " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة حين مات ابنه " " أعرستم الليلة " قال نعم . قال : " بارك الله لكما في غابر ليلتكما " فقال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن " ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد مماته . قال صلى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث : فذكر منها " أو ولد صالح يدعو له " ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية .
هذا ، وقد حكى لنا القرآن في سورة مريم دعاء زكريا بصورة أكثر تفصيلا فقال : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } هذا هو دعاء زكريا كما حكاه الله - تعالى - في أكثر من موضع فى كتابه الكريم فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع ، والتضرع الخالص ؟
عندئذ تحركت في نفس زكريا ، الشيخ الذي لم يوهب ذرية ، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية . الرغبة في الذرية . في الامتداد . في الخلف . . الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد ، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل . إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها :
( هنالك دعا زكريا ربه . قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء . . فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله ، وسيدا وحصورا ، ونبيا من الصالحين . . قال : رب أنى يكون لي غلام ، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قال : كذلك الله يفعل ما يشاء . قال : رب اجعل لي آية . قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ؛ واذكر ربك كثيرا ، وسبح بالعشي والإبكار )
وكذلك . . نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر ، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون ! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه ، لأنه واقع ، صاغوا حوله الخرافات والأساطير !
فها هو ذا " زكريا " الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة - فيتوجه إلى ربه يناجيه ، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة :
( هنالك دعا زكريا ربه . قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء ) . .
لما رأى زكريا ، عليه السلام ، أن الله تعالى يرزق مريم ، عليها السلام ، فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، طمع حينئذ في الولد ، و[ إن ]{[4981]} كان شيخا كبيرا قد [ ضعف و ]{[4982]} وَهَن منه{[4983]} العظم ، واشتعل رأسه شيبا ، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا ، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفيا ، وقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ } أي : من عندك { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي : ولدا صالحا
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ }
أما قوله : { هُنَالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ } فمعناه : عند ذلك ، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها ، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الاَدميين في ذلك لها ، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض¹ طمع في الولد مع كبر سنه من المرأة العاقر ، فرجا أن يرزقه الله منها الولد مع الحال التي هما بها ، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها ، من ثمرة الصيف في الشتاء ، وثمرة الشتاء في الصيف ، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض ، بل المعروف في الناس غير ذلك ، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس ، فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد ، وسأله ذريّة طيبة . وذلك أن أهل بيت زكريا فيما ذكر لنا ، كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، قال : إن ربّا أعطاها هذا في غير حينه ، لقادر على أن يرزقني ذرّية طيبة . ورغب في الولد ، فقام فصلى ، ثم دعا ربه سرّا ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْبا وَلَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا وَإنّي خِفْتُ المَوَالي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأتي عاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا } . وقوله : { رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُريّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } . وقال : { رَبّ لا تَذَرْنِي فَرْدا وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فلما رأى ذلك زكريا يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف عند مريم قال : إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه ، قادر أن يرزقني ولدا ! قال الله عزّ وجلّ : { هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ } قال : فذلك حين دعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قال : فدخل المحراب ، وغلق الأبواب ، وناجى ربه ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا } إلى قوله : { رَبّ رَضِيّا } { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، قال : فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ، ولا ولد له ، وقد انقرض أهل بيته ، فقال : { رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } ثم شكا إلى ربه ، فقال : { رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا } . . . إلى : { وَاجْعَلْهُ رَب رَضِيّا } { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ } . . . الاَية .
وأما قوله : { رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً } فإنه يعني بالذرية : النسل ، وبالطيبة : المباركة . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { قال رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً } يقول : مباركة .
وأما قوله : { مِنْ لَدُنْكَ } فإنه يعني من عندك . وأما الذرية : فإنها جمع ، وقد تكون في معنى الواحد ، وهي في هذا الموضع الواحد¹ وذلك أن الله عزّ وجلّ قال في موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا } ولم يقل «أولياء » ، فدلّ على أنه سأل واحدا . وإنما أنث طيبة لتأنيث الذرية ، كما قال الشاعر :
أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى وأنْتَ خَلِيفَةٌ ، ذَاكَ الكمالُ
فقال : ولدته أخرى ، فأنث ، وهو ذكر لتأنيث لفظ الخليفة ، كما قال الاَخر :
كما يَزْدَرِي مِنْ حَيّةٍ جَبَلِيّةٍ سَكابِ إذا ما عَضّ ليسَ بأدْرَدَا
فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية ، ثم رجع إلى المعنى فقال : إذا ما عضّ لأنه كان أراد حية ذكرا ، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه فلان من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة ، فأما إذا سُمي رجل بشيء من ذلك ، فكان في معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته .
وأما قوله : { إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ } فإن معناه : إن سامع الدعاء ، غير أن سميع أمدح ، وهو بمعنى ذو سمع له ، وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه : إنك تسمع ما تدعي به .
فتأويل الاَية : فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال : ربّ هب لي من عندك ولدا مباركا ، إنك ذو سمع دعاء من دعاك .
هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان ، و{ هنالك } باللام أبلغ في الدلالة على البعد ، ولا يعرب{ هنالك } لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى ، ومعنى هذه الآية : أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، و«ذرية » اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك ، وقال الطبري : إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء ، وأنث «طيبة » حملاً على لفظ «ذرية »كما قال الشاعر : [ الوافر ]
أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ{[3128]}
فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة ؟ . . . سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا{[3129]}
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام ، و{ طيبة } معناه سليمة في الخلق والدين نقية ، و { سميع } في هذه الآية بناء اسم فاعل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هنالك}: عند ذلك، {دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك}: من عندك. {ذرية طيبة}: تقيا زكيا، كقوله: {واجعله رب رضيا} (مريم: 6). {إنك سميع الدعاء} فاستجاب الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{هُنَالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ}: عند ذلك، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الاَدميين في ذلك لها، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض طمع في الولد مع كبر سنه من المرأة العاقر، فرجا أن يرزقه الله منها الولد مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها، من ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس، فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذريّة طيبة. وذلك أن أهل بيت زكريا فيما ذكر لنا، كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرّا، فقال: {رَبّ إِنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْبا وَلَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا وَإنّي خِفْتُ المَوَالي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأتي عاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا}. وقوله: {رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُريّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ}. وقال: {رَبّ لا تَذَرْنِي فَرْدا وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ}.
{رَب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً}: يعني بالذرية: النسل، وبالطيبة: المباركة.
{مِنْ لَدُنْكَ}: من عندك. وأما الذرية: فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد، وذلك أن الله عزّ وجلّ قال في موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا} ولم يقل «أولياء»، فدلّ على أنه سأل واحدا. وإنما أنث طيبة لتأنيث الذرية. {إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ}: إنك سامع الدعاء، غير أن سميع أمدح، وهو بمعنى ذو سمع له.
فتأويل الآية: فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: ربّ هب لي من عندك ولدا مباركا، إنك ذو سمع دعاء من دعاك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي لما رأى كرامة الله سبحانه معها ازداد يقيناً على يقين، ورجاء على رجاء؛ فسأل الوَلَدَ على كبر سِنِّه... ويقال إن زكريا عليه السلام سأل الوَلَدَ ليكونَ عوناً له على الطاعة، ووارثاً من نَسْلِه في النبوة، ليكون قائماً بحقِّ الله، فلذلك استحق الإجابة؛ فإن السؤال إذا كان لحقِّ الحقِّ -لا لحظِّ النَّفْسِ- لا يكون له الرد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة... و {طيبة} معناه سليمة في الخلق والدين نقية...
المسألة الأولى: اعلم أن قولنا: ثم، وهناك، وهنالك، يستعمل في المكان، ولفظة: عند، وحين يستعملان في الزمان، قال تعالى: {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 119] وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه، وقال تعالى: {إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا} [الفرقان: 13] أي في ذلك المكان الضيق، ثم قد يستعمل لفظة {هنالك} في الزمان أيضا، قال تعالى: {هنالك الولاية لله الحق} [الكهف: 44] فهذا إشارة إلى الحال والزمان.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله {هنالك دعا زكريا ربه} إن حملناه على المكان فهو جائز، أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم عليها السلام، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه، وإن حملناه على الزمان فهو أيضا جائز، يعني في ذلك الوقت دعا ربه.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله {هنالك دعا} يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء، وقد اختلفوا فيه، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا: هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، ومن فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضا فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر.
فإن قيل: إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام.
فإن قلنا: إنه كان عالما بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سببا لزيادة علمه بقدرة الله تعالى، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك، فلا يبقى لقوله هنالك أثر.
والجواب: أنه كان قبل ذلك عالما بالجواز، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالما به، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات.
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {هب لي من لدنك ذرية طيبة} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام في لفظة {لدن} فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى: أريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {إنك سميع الدعاء} ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم {ولم أكن بدعائك رب شقيا} [مريم: 4].
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي قوله: {هنالك دعا} دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة...
{قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له،... هب، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه: لا من الوالد لكبر سنه، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد، فكان وجوده كالوجود بغير سبب، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله: من لدنك، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ تحركت في نفس زكريا، الشيخ الذي لم يوهب ذرية، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية. الرغبة في الذرية. في الامتداد. في الخلف.. الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل. إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها:
(هنالك دعا زكريا ربه. قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة. إنك سميع الدعاء.. فنادته الملائكة -وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقا بكلمة من الله، وسيدا وحصورا، ونبيا من الصالحين.. قال: رب أنى يكون لي غلام، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. قال: كذلك الله يفعل ما يشاء. قال: رب اجعل لي آية. قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا؛ واذكر ربك كثيرا، وسبح بالعشي والإبكار)
وكذلك.. نجدنا أمام حادث غير عادي. يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير!
فها هو ذا "زكريا "الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها.. ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف -وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة- فيتوجه إلى ربه يناجيه، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة:
(هنالك دعا زكريا ربه. قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة. إنك سميع الدعاء)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي في المكان، قبل أن يخرج، وقد نبّهه إلى الدعاء مشاهدةُ خوارق العادة مع قول مريم: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} [آل عمران: 37] والحكمةُ ضالة المؤمن، وأهلُ النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حَسرة من عدم الولد كما حكى الله عنه في سورة مريم. وأيضاً فقد كان حينئذ في مكان شَهد فيه فيضا إلاهياً. ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمْكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلاّ كالذوات الصالحة في أنها محالّ تجلّيات رضا الله. وسأل الذرية الطيّبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة. ومشاهدةُ خوارق العادات خوّلت لزكرياء الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنّه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
توجيه لعباده المؤمنين حتى يملؤوا قلوبهم بمثل هذا الأمل والرجاء، وهو في نفس الوقت تنويه بالذرية الطيبة التي هي من نعم الله الكبرى الجديرة بالابتهال والدعاء... غير أن الذرية المرغوبة والمطلوبة هي الذرية (الطيبة) كما في دعاء زكرياء، لا الذرية الخبيثة، "وطيب الذرية "مرجعه في أغلب الأحوال إلى طيب منبتها، أي إلى طيب الأسرة وحسن تربيتها، وإلى قدرتها على تحمل مسؤوليتها، من الوجهتين الروحية والمادية، الدينية والدنيوية، وإلا كانت الذرية نقمة لا نعمة، نقمة على نفسها أولا، ونقمة على أسرتها ثانيا، ونقمة على وطنها كله في نهاية الأمر، وعلى مثل هذا النوع من الذرية التي لا ينبغي أن يترك لها الحبل على الغارب ينطبق قوله تعالى: {يَأيُّهَا الذِينَ امَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً} وذلك حتى لا يستشري فيها الفساد، ويضيع منها الرشاد، فينطبق عليها حينئذ قوله تعالى: {إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولاَدِكُم عَدُواًّ لَكُم فاحذَرُوهُم}...
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} إنها ساعة أن قالت له: إن الرزق من عند الله، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا لنفسه: فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا، وما دام قد قال هذا القول فلا بد أنه قد صدق مريم في قضيتها، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله، ودليل آخر في التصديق، هو أنه لا بد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب...
{رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ}... وكأنه يقول: إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك. لماذا؟ لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين، والذكر، والعز، وغيرها، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض...