{ 34 - 35 ْ } { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّوَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ }
لما كان أعداء الرسول يقولون تربصوا{[529]} به ريب المنون . قال الله تعالى : هذا طريق مسلوك ، ومعبد منهوك ، فلم نجعل لبشر { مِنْ قَبْلِكَ ْ } يا محمد { الْخُلْدِ ْ } في الدنيا ، فإذا مت ، فسبيل أمثالك ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء ، وغيرهم .
{ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ْ } أي : فهل إذا مت خلدوا بعدك ، فليهنهم الخلود إذًا إن كان ، وليس الأمر كذلك ، بل كل من عليها فان ، ولهذا قال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ْ }
ثم بين - سبحانه - أن مصير البشر جميعا إلى الفناء ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وأن من طبيعة الإنسان تعجل الأمور قبل أوانها ، وأن المشركين لو علموا المصير السىء الذى ينتظرهم يوم القيامة ، لما قالوا ما قالوه من باطل ، ولما فعلوا ما فعلوه من قبائح ، قال - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ . . . } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } أى دوام البقاء فى الدنيا .
نزلت حين قالوا : نتربص بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ريب المنون . وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بنى فلان ، فقال الله - تعالى - : قد مات الأنبياء قبلك يا محمد ، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك . . .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } للانكار والنفى . . .
والمعنى : وما جعلنا - أيها الرسول الكريم - لبشر من قبلك - كائنا من كان - الخلود فى هذه الحياة ، وأنت إن مت فهم - أيضا - سيموتون فى الوقت الذى حدده الله - تعالى - لانقضاء عمرك وأعمارهم ، وما دام الأمر كذلك فذرهم فى جهالتهم يعمهون ، ولا تلتفت إلى شماتتهم فيك ، أو إلى تربصهم بك ، فإنك ميت وإنهم ميتون ، وكل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ، ورحم الله الإمام الشافعى حيث يقول :
تمنى أناس أن أموت . - وإن أمت . . . فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذى يبغى خلاف الذى مضى . . . تهيأ لأخرى مثلها ، وكأن قد
وفي نهاية الشوط يربط السياق بين نواميس الكون في خلقه وتكوينه وتصريفه ؛ ونواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها :
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد . أفإن مت فهم الخالدون ? كل نفس ذائقة الموت ، ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا ترجعون ) . .
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد . فكل حادث فهو فان . وكل ما له بدء فله نهاية . وإذا كان الرسول [ ص ] يموت فهل هم يخلدون ? وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعملون عمل أهل الموتى ? وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون ?
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : يا محمد ، { الْخُلْدَ } أي : في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27 ] .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر ، عليه السلام ، مات وليس بحي إلى الآن ؛ لأنه بشر ، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } .
وقوله : { أَفَإِنْ مِتَّ } أي : يا محمد ، { فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ؟ ! أي : يؤملون أن يعيشوا بعدك ، لا يكون هذا ، بل كل إلى فناء ؛ ولهذا قال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما خَلّدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها ، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رُسُلُنا . أفإنْ مِتّ فَهُمُ الخالِدُونَ يقول : فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ؟ لا ، ما ذلك كذلك ، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ فأدخلت الفاء في «إن » وهي جزاء ، وفي جوابه لأن الجزاء متصل بكلام قبله ، ودخلت أيضا في قوله «فهم » لأنه جواب للجزاء ، ولو لم يكن في قوله «فهم » الفاء جاز على وجهين : أحدهما : أن تكون محذوفة وهي مرادة ، والاَخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء ، فكأنه قال : أفهم الخالدون إن متّ .
عُنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم { أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون } [ الأنبياء : 3 ] ، وقولهم : { أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يُدبرونه قال تعالى : { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } في سورة الطور ( 30 ) ، وقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك في } [ الأنفال : 30 ] .
وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريبَ المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم ، أو كأنهم لا يموتون أبداً فلا يشمت بهم أحد ، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون .
وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام .
ففي قوله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } طريقةُ القول بالموجَب ، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم ، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجَب ، أي ما هم بخالدين حتى يُوقنوا أنهم يرون موتك . وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذارٌ لهم بأنهم لا يرى موتَه منهم أحد .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما خَلّدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رُسُلُنا.
"أفإنْ مِتّ فَهُمُ الخالِدُونَ" يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك؟ لا، ما ذلك كذلك، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الصارم البتار، للأعمار الطوال والقصار، من الليل والنهار، كان كأنه قيل: فيفنيان كل شديد، ويبليان كل جديد، فعطف عليه قوله: {وما جعلنا} أي بما لنا من العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء {لبشر} وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال: {من قبلك الخلد} ناظراً إلى قوله {وما كانوا خالدين} بعد قوله {هل هذا إلا بشر مثلكم}...
ولما كان قولهم {بل هو شاعر} [الأنبياء: 5] مشيراً إلى أنهم قالوا نتربص به ريب المنون كما اتفق لغيره من الشعراء، وكان ينبغي أن لا ينتظر أحد لآخر من الأذى إلا ما يتحقق سلامته هو منه، توجه الإنكار عليهم والتسلية له بمنع شماتتهم في قوله: {أفئن} أي أيتمنون موتك فإن {مت فهم} أي خاصة {الخالدون} فالمنكر تقدير خلودهم على تقدير موته الموجب لإنكار تمنيهم لموته، فحق الهمزة دخولها على الجزاء، وهو فهم، وإنما قارنت الشرط لأن الاستفهام له الصدر.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بما يرون من الآيات الكونية، أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام، ولا خلق من فيها للبقاء، بل خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلة إلى الآخرة التي هي دار الخلود، فلا تشمتوا إذا مات محمد (ص) فما هذا بسبيله وحده، بل هذا سنة الله في الخلق أجمعين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول [ص] يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعملون عمل أهل الموتى؟ وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون. وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام...
وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذارٌ لهم بأنهم لا يرى موتَه منهم أحد.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وقول الكفار دليل على أنهم قد حاروا في أمر النبي الذي استمر يقذفهم بقوارع الآيات وقواصم النذر دون مبالاة بعنادهم وتحديهم، ولم يستطيعوا إسكاته وحمله على الكف عن تسفيههم، ووقفوا منه موقف العاجز، ولم يبق أمل لخلاصهم منه في نظرهم إلا في موته الذي صاروا يتمنونه، ويطمئن بعضهم بعضا به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قرأنا في الآيات السابقة أنّ المشركين قد تشبّثوا بمسألة كون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشراً من أجل التشكيك بنبوّته، وكانوا يعتقدون أنّ النّبي يجب أن يكون ملكاً وخالياً من كلّ العوارض البشريّة.
إنّ الآيات محلّ البحث أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون تارةً أنّ انتفاضة النّبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كلّ شيء، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور: (أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون).
وكانوا يظنّون تارةً أُخرى أنّ هذا الرجل لمّا كان يعتقد أنّه خاتم النبيّين، فيجب أن لا يموت أبداً ليحفظ دينه، وبناءً على هذا فإنّ موته في المستقبل سيكون دليلا على بطلان ادّعائه. فيجيبهم القرآن في أوّل آية بجملة قصيرة فيقول: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد).
إنّ قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير، أي انّه لا يكتب لأحد الخلود، وإذا كان هؤلاء يفرحون بموتك: (أفإن مت فهم الخالدون).
ربّما لا نحتاج إلى توضيح أنّ بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء الرسول. فإنّ شرائع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وإن لم تكن خالدة، إلاّ أنّها بقيت بعد وفاة هؤلاء الأنبياء العظام (وبالنسبة لعيسى فإنّ شريعته استمرت بعد صعوده إلى السّماء) لقرون طويلة. وبناءً على هذا فإنّ خلود المذهب لا يحتاج إلى حراسة النّبي الدائمة له، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.
وأمّا ما تصوّره أولئك من أنّ كلّ شيء سينتهي بموت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّهم أخطأوا في ظنّهم، لأنّ هذا الكلام يصحّ في المسائل التي تقوم بالشخص. والإسلام لم يكن قائماً بالنّبي ولا بأصحابه. فقد كان ديناً حيّاً ينطلق متقدّماً بحركة الذاتية الداخلية ويخترق حدود الزمان والمكان ويواصل طريقه!