88- قال : يا قوم : أخبروني إن كنت على حُجة واضحة ويقين من ربى ، ورزقني رزقاً حسناً تفضلا منه ، أيصح لي أن أكتم ما أمرني بتبليغه لكم ، من ترك عبادة الأصنام ، وطلب إيفاء الكيل والميزان ، وترك الفساد في الأرض ؟ وأنا لا أريد أن أتجه إلى فعل ما أنهاكم عنه من ذلك ، ما أريد بموعظتي ونصيحتي وأمْري ونهيي إلا الإصلاح قدر طاقتي وجهدي واستطاعتي ، وما كنت موفّقاً لإصابة الحق إلا بمعونة الله وتأييده وتسديده ، عليه - وحده - أعتمد ، وإليه - وحده - أرجع .
{ قَالَ ْ } لهم شعيب : { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ْ } أي : يقين وطمأنينة ، في صحة ما جئت به ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ْ } أي : أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني .
{ وَ ْ } أنا لا { أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ } فلست أريد أن أنهاكم عن البخس ، في المكيال ، والميزان ، وأفعله أنا ، وحتى تتطرق إليَّ التهمة في ذلك . بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه .
{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ْ } أي : ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم ، وتستقيم منافعكم ، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي ، شيء بحسب استطاعتي .
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس ، دفع هذا بقوله : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ْ } أي : وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير ، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى ، لا بحولي ولا بقوتي .
{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ْ } أي : اعتمدت في أموري ، ووثقت في كفايته ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ْ } في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات ، وفي [ هذا ] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات .
وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد ، وهما الاستعانة بربه ، والإنابة إليه ، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ْ } وقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ْ }
ومع كل هذه السفاهة : ترى شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - يتغاضى عن سفاهاتهم ، لأنه يحس بقصورهم وجهلهم ، كما يحس بقوة الحق الذى أتاهم به من عند ربه ، فيرد عليهم بقوله : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي . . } والبينة : ما يتبين به الحق من الباطل ، ويتميز به الهدى من الضلال .
أى : قال شعيب لقومه بأسلوب مهذب حكيم : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ، وبصيرة مستنيرة منحنى إياها ربى ومالك أمرى .
{ وَرَزَقَنِي مِنْهُ } - سبحانه - ، { رِزْقاً حَسَناً } يتمثل فى النبوة التى كرمنى بها ، وفى المال الحلال الذى بين يديى ، وفى الحياة الطيبة التى أحياها .
وجواب الشرط محذوف والتقدير : أخبرونى إن كنت كذلك ، هل يليق بى بعد ذلك أن أخالف أمره مسايرة لأهوائكم ؟ كلا إنه لا يليق بى ذلك ، وإنما اللائق بى أن أبلغ جميع ما أمرنى بتبليغه دون خوف أو تقصر .
ثم يكشف لهم عن أخلاقه وسلوكه معهم فيقول : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ . . . }
أى : ما أريد بأمرى لكم بعبادة الله وحده ، وبنهيى إياكم عن التطفيف والبخس ، مجرد مخالفتكم ومنازعتكم ومعاكستكم ، أو أن آمركم بشئ ثم لا أفعله ، أو أنهاكم عنه ثم أفعله ، من أجل تحقيق منفعة دنيوية . .
كلا ، كلا إنى لا أريد شيئا من ذلك وإنما أنا إنسان يطابق قولى فعلى ، وأختار لكم ما أختاره لنفسى .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يقال : خالفنى فلان إلى كذا : إذا ق صده وأنت مول عنه . وخالفنى عنه : إذا ولى عنه وأنت تقصده .
ويلقاك الرجل صادرا عن المال فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفنى إلى الماء ، يريد أنه ذهب إليه واردا ، وهو ذهب عنه صادراً ، ومنه قوله - سبحانه - { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعنى : ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التى نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم .
وقال الإِمام ابن كثير ، وعن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود - رضى الله عنه - فقالت له : أأنت الذى نتهى عن الواصلة - أى التى تصل شعرها بشعر آخر - ؟ قال : نعم . فقالت : فلعله فى بعض نسائك ، فقال : ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } .
ثم بين لهم أنه ما ريد لهم إلا الإِصلاح فيقول : { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت . . . }
أى : ما أريد بما أنصحكم به إلا إصلاحكم وسعادتكم ، وما دمت أستطيع ذلك ، وأقدر عليه ، فلن أقصر فى إسداء الهداية لكم .
ثم يفوض الأمور إلى الله - تعالى - فيقول : { وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .
أى : وما توفيقى فيما أدعوكم إليه من خير أو أنهاكم عنه من شر إلا بتأييد الله وعونه ، فهو وحده الذى عليه أتوكل وأعتمد فى كل شئونى ، وهو وحده الذى إليه أرجع فى كل أمورى .
ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم . . يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه ؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات ؛ فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم ؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق ! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس . وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون :
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ) . .
في تودد وتقرب ، وتذكير بالأواصر القريبة .
( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ؟ ) . .
أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه . وعن هذه البينة الواضحة في نفسي ، أصدر واثقا مستيقنا .
ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها .
( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) .
فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به !
( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) . .
الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه ؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ، ويضيع بعض الفرص . فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ؛ ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا ، ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام !
فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي ، وبما يجزي على جهدي .
إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور ، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي .
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير ، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط :
فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير :
يقول لهم أرأيتم يا قوم { إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة فيما أدعو إليه ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } قيل : أراد النبوة . وقيل : أراد الرزق الحلال ، ويحتمل الأمرين .
وقال الثوري : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي : لا أنهاكم عن شيء{[14871]} وأخالف أنا في السر فأفعله خفية{[14872]} عنكم ، كما قال قتادة في قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبَه{[14873]} { إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } أي : فيما آمركم وأنهاكم ، إنما مرادي إصلاحكم جهدي وطاقتي ، { وَمَا تَوْفِيقِي } أي : في إصابة الحق فيما أريده { إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع ، قاله مجاهد وغيره .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا أبو قَزْعَةَ سُوَيد بن حُجَير{[14874]} الباهلي ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه : أن أخاه مالكًا قال : يا معاوية ، إن محمدًا أخذ جيراني ، فانطَلق إليه ، فإنه قد كلمك وعرفك ، فانطلقت معه فقال : دع لي جيراني ، فقد كانوا أسلموا . فأعرض عنه . [ فقام مُتَمَعطًا ]{[14875]} فقال : أما والله لئن فَعلتَ إن الناس يزعمون أنك تأمر بالأمر وتخالف إلى غيره . وجعلت أجرّه وهو يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تقول ؟ " فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك . إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره . قال : فقال : " أوَ قد قالوها - أو قائلهم - ولئن فعلت ذلك ما ذاك إلا عليّ ، وما عليهم من ذلك من شيء ، أرسلوا له جيرانه{[14876]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن بَهْز{[14877]} بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده
قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا من قومي في تُهَمة فحبسهم ، فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقال : يا محمد ، علام تحبس جيرتي ؟ فصَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنه ]{[14878]} فقال : إن ناسًا ليقولون : إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يقول ؟ " قال : فجعلت أعرض بينهما الكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دَعوة لا يفلحون بعدها أبدًا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها ، فقال : " أو قد قالوها - أو : قائلها منهم - والله لو فعلتُ لكان عليّ وما كان عليهم ، خلوا له عن جيرانه " {[14879]} .
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال : سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تُنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه " {[14880]} . هذا{[14881]} إسناد صحيح ، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث : " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم ، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل : اللهم ، إني أسألك من فضلك " {[14882]} ومعناه - والله أعلم - : مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ [ عَنْهُ ] } {[14883]} .
وقال قتادة ، عن عَزْرَة{[14884]} عن الحسن العُرَني ، عن يحيى بن الجزار ، عن مسروق ، أن امرأة جاءت ابن مسعود قالت{[14885]} أتنهى عن الواصلة ؟ قال : نعم . فقالت [ المرأة ]{[14886]} فلعله في بعض نسائك ؟ فقال : ما حفظت إذا وصية العبد الصالح : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } .
وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا جرير ، عن أبي سليمان العتبي{[14887]} قال : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي ، فيكتب في آخرها : وما كانت{[14888]} من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .
يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله ، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام ، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال ، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا ، يعني : حلالاً طيبا . { وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ } ، يقول : وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعل خلافه ، بل لا أفعل إلا بما آمركم به ، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُم عَنْهُ } ، يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه .
{ إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ } ، يقول : ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم ، { ما اسْتَطَعْتُ } ، يقول : ما قدرت على إصلاحه ، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكلة ، بخلافكم أمره ومعصيتكم رسوله . { وَما تَوْفِيقي إلاّ باللّه } ، ِ يقول : وما إصابتي الحقّ في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله ، فإنه هو المعين على ذلك ، إن لا يعنّي عليه لم أصب الحقّ فيه .
وقوله : { عَلَيهِ تَوَكّلْتُ } ، يقول : إلى الله أفوّض أمري ، فإنه ثقتي وعليه اعتمادي في أموري . وقوله : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } ، وإليه أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن إسحاق نجيح ، عن مجاهد : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { وإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .
{ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة . { ورزقني منه رزقا حسنا } إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال ، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه . وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ، والضمير في { منه } لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله . { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم ، فلو كان صوابا لآثرته ولم أعرض عنه فضلا عن أن أنهى عنه ، يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه ، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس ، { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإصلاح ، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه ، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن : وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، وثانيها حق النفس ، وثالثها حق الناس . وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه . و{ ما } مصدرية واقعة موقع الظروف وقيل خبرية بدل من { الإصلاح } أي المقدار الذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف . { وما توفيقي إلا بالله } وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته . { عليه توكّلت } فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته ، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار ، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ . { واليه أنيب } إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل . وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى ، والاستعانة به في مجامع أمره والإقبال عليه بشراشره ، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء .
وقوله تعالى : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة } ، الآية ، هذه مراجعة لطيفة واستنزال{[6474]} حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السلام ، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك خطيب الأنبياء . وجواب الشرط الذي في قوله : { إن كنت على بيّنة من ربي } محذوف تقديره : أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة ؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة ؟ و { بيّنة } يحتمل أن تكون بمعنى : بيان أو بين ، ودخلت الهاء للمبالغة - كعلامة - ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف ، فتكون الهاء هاء تأنيث{[6475]} .
وقوله : { ورزقني منه رزقاً حسناً } يريد : خالصاً من الفساد الذي أدخلتم أنتم أموالكم . ثم قال لهم : ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن ، فأستأثر بالمال لنفسي ، وما أريد إلا إصلاح الجميع ، و { أنيب } معناه : أرجع وأتوب وأستند{[6476]} .
تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح عليهما السّلام .
والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح عليهما السلام وهو نعمة النبوءة ، وإنّما عبّر شعيب عليه السّلام عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } [ هود : 87 ] لأنّ الأموال أرزاق . وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام ، أو يدل عليه { إن كنتُ على بينة من ربي } . والتقدير : مَاذا يسعكم في تكذيبي ، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي ، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقاً ، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال ، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم .
ومعنى { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } عند جميع المفسّرين من التّابعين فمَن بعدهم : ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالاً وأنا أفعلها ، أي لم أكن لأنْهاكم عنْ شيء وأنا أفعله . وبيّن في « الكشاف » إفادة التركيب هذا المعنى بقوله « يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه . . . ويلقاك الرجلُ صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً » اهـ .
وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله ، فإذا ذُكرت في غرض دلّت على الاتصاف بضده ، ثم يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولاً لحرف { إلى } الدّال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم : خالفني إلى الماء لتضمين { أخالفكم } معنى السعي إلى شيء . ويتعلق { إلى ما أنهاكم } بفعل { أخالفكم } ، ويكون { أن أخالفكم } مفعول { أريد } .
فقوله : { أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها . والمقصود : بيان أنه مأمور بذلك أمراً يعمّ الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع ، كما قال علماؤنا : إنّ خطاب الأمة يشمل الرسول عليه الصلاة والسّلام ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك ، ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضاً نفسه عنه . وفي هذا تنبيه لهم على مَا فِي النهي من المصلحة ، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها ، لأن مثل ذلك يُنْبِىءُ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون ، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولَى بجلب الخير لأنفسكم .
والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة ؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهّموه ساعياً إلى التملك عليهم والتجبر ، وإما لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها .
وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين ، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنّه لا يقابل قول قومه { أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } [ هود : 87 ] ، فإنهم ظنوا به أنه مَا قَصَدَ إلاّ مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه ، فكان مقتضى إبطال ظِنّتِهم أن يَنفي أن يريد مجرد مخالفتهم ، بدليل قوله عقبه { إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استطعت } .
فمعنى قوله : { وما أريد أن أخالفكم } أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم . ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لمّا جاء وفد فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق : « أمّرْ الأقرع بن حابس ، وقال عمر : أمّرْ فلاناً ، فقال أبو بكر لعُمر : ما أردتَ إلى خلافي ، فقال عمر : ما أردتُ إلى خلافك » . فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية . وفي هذا ما يدلّ على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود . وقسم ينتقد ليبيّن وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه . وعلى هذا الوجه يتعلّق { إلى ما أنهاكم } بفعل { أريد } وكذلك { أن أخالفكم } يتعلق ب { أريد } على حذف حرف لام الجر . والتقدير : ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم ، أي لمحبة خلافكم .
وجملة { إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استعطعت } بيان لجملة { ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } لأنّ انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبيّنهُ بأنّ الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح ، فالقصر قصر قلب .
وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول : ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموءل :
تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
ولما بيّن لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال : { وما توفيقي إلاّ بالله } فسمّى إرادته الإصلاح توفيقاً وجعله من الله لا يحصل في وقت إلاّ بالله ، أي بإرادته وهديه ، فجملة { وما توفيقي إلاّ بالله } في موضع الحال من ضمير { أريد } .
والتوفيق : جعل الشيء وفقاً لآخر ، أي طبقاً له ، ولذلك عرفوه بأنه خلقُ القدرة والدّاعية إلى الطاعة .
وجملة { عليه توكّلت } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو من ياء المتكلم في قوله : { توفيقي } لأنّ المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه .
والتوكّل مضى عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكّل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .
والإنابة تقدمت آنفاً في قوله : { إنّ إبراهيم لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ } [ هود : 75 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا}، يعني: الإيمان، وهو الهدى، {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}، يعني: وما أريد أن أنهاكم عن أمر، ثم أركبه، لقولهم لشعيب في الأعراف: {أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88]. ثم قال: {إن أريد}، يعني: ما أريد {إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي} في الإصلاح بالخير {إلا بالله عليه توكلت}، يقول: به وثقت، لقولهم: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [الأعراف:88]، {وإليه أنيب}: وإليه المرجع بعد الموت..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال، "وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا"، يعني: حلالاً طيبا.
{وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ}، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا بما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه.
{إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ}، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم، {ما اسْتَطَعْتُ}، يقول: ما قدرت على إصلاحه، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكلة بخلافكم أمره ومعصيتكم رسوله.
{وَما تَوْفِيقي إلاّ باللّه}، ِ يقول: وما إصابتي الحقّ في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك، إن لا يعنّي عليه لم أصب الحقّ فيه.
{عَلَيهِ تَوَكّلْتُ}، يقول: إلى الله أفوّض أمري، فإنه ثقتي وعليه اعتمادي في أموري. {وَإلَيْهِ أُنِيبُ}: وإليه أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على علم وبيان وحجج وبرهان من ربي: أي تعلمون أني كنت على بيان من ربي وحجج (ورزقني منه رزقا حسنا) أي قال: هو رزقني رزقا حسنا الدين والهدى والنبوة على ما ذكرنا. وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك، وما رزق أولئك عليهم تبعة في ذلك لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يمكن للواعظ أو الناصح أنْ يساهِل المأمورَ في كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه؛ فإنَّ الإتيانَ بجميع الطاعات غير مُمْكن، ولكنَّ التجرُّد عن جميع المحرَّمات واجبٌ. ويقال مَنْ لم يكنْ له حُكْمٌ على نفسه في المنع عن الهوى لم يكن له حُكْمٌ على غيره فيما يرشده إليه من الهدى. مَدَارُ الأمر إلى الأغراض المقضية حُسْنُ القصد بالإصلاح، فيَقْرِنُ اللَّهُ به حسن التيسير، ومَنْ انطوى على قصدٍ بالسوء وَكَلَ الحقُّ بشأنه التعويق. حقيقةُ التوفيق ما ينفق به الشيء، وفي الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المَنْهيات يُعدُّ من جملة التوفيق- على التوسُّع. والتوفيق بالله ومن اللهِ، وهو -سبحانه- بإعطائه متفضِّلٌ. التوكل: تفويض الأمر إلى الله، وأمارته تركُ التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود، ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب. ويقال التوكلُ: السكون والثقةُ بالمضمون. ويقال التوكل: سكون القلب بمضمون الرَّبّ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والتوفيق: تسهيل سبيل الخير والطاعة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك. يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟ فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم. {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح}: ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر {مَا استطعت} ظرف، أي: مدّة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً. أو بدل من الإصلاح، أي: المقدار الذي استطعته منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت. أو مفعول له... {وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله} وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتي وأذر، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده، والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السلام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك خطيب الأنبياء...
اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} وفيه وجوه:
الأول: أن قوله: {إن كنت على بينة من ربي} إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة.
{ورزقني منه رزقا حسنا} إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، فإنه يروى أن شعيبا عليه السلام كان كثير المال...
أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه،... وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل، لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه...
{ورزقني منه رزقا حسنا} يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى وإيضاح شرائع الله تعالى...
{وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة، وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد، وذلك يدل على كمال العقل، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلها إلى جزأين، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال البتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق، وأشرف الأديان والشرائع...
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته. واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه.
وأما قوله: {وإليه أنيب} فهو إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضا يفيد الحصر لأن قوله: {وإليه أنيب} يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال:"ذاك خطيب الأنبياء" لحسن مراجعته في كلامه بين قومه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيه وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال: ما أجابهم به؟ فقيل: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف... وقد نبهت... الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد -حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال: {إن} أي ما {أريد} أي شيئاً من الأشياء {إلا الإصلاح} وأقر بالعجز فقال: {ما استطعت} أي مدة استطاعتي للإصلاح وهو كما أردت فإن مالي- مع اجتنابي ما أنتم عليه -صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو- مع انتفاء التهمة عنى فيه -دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلا منه ولا محيص عن الرجوع إليه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال: {وما توفيقي} إي فيما استطعت من فعل الإصلاح {إلا بالله} أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ {عليه} أي وحده {توكلت} ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله {ما استطعت} إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر: {وإليه} أي خاصة {أنيب} أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والتوفيق: خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أي يا قومي الذين أنا منهم وهم مني، وأحب لهم ما أحب لنفسي، أخبروني عن شأني وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به وما نهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا مني. {ورزقني منه رزقا حسنا} في كثرته وفي صفته، وهو كسبه بالحلال بدون تطفيف مكيال ولا ميزان، ولا بخس لحق أحد من الناس، فأنا مجرب في الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة، لا فقير معدم أخترع الآراء النظرية فيما ليس لي خبرة به، أي أرأيتم والحالة هذه ماذا أفعل؟ وماذا أقول لكم غير الذي قلته عن نبوة ربانية، وتجارب غنى مالية؟ هل يسعني الكتمان أو التقصير في البيان؟... {وما توفيقي إلا بالله} التوفيق ضد الخذلان، وهو الفوز والفلاح في إصابة الإصلاح، وكل عمل صالح وسعي حسن، فإن حصوله يتوقف على التوفيق بين شيئين: أحدهما كسب العالم وطلبه الشيء من طريقه، وثانيهما موافقة الأسباب الكونية والخارجية التي يتوقف عليها النجاح في كسبه وسعيه، وتسخيرها إنما يكون من الله وحده، والمعنى: وما توفيقي لإصابة ذلك فيما أستطيعه منه إلا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته، وأعلاها ما خصني به دونكم من نبوته ورسالته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم.. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات؛ فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون: (قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب).. (يا قوم...).. في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة. (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟).. أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقا مستيقنا. (ورزقني منه رزقا حسنا).. ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها. (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه). فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به! (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).. الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة؛ ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا، ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام! (وما توفيقي إلا بالله). فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي. (عليه توكلت).. عليه وحده لا اعتمد على غيره. (وإليه أنيب).. إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي. ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط: فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب ا [لق] اسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح عليهما السلام وهو نعمة النبوءة، وإنّما عبّر شعيب عليه السّلام عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87] لأنّ الأموال أرزاق. والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهّموه ساعياً إلى التملك عليهم والتجبر، وإما لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها. وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنّه لا يقابل قول قومه {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87]، فإنهم ظنوا به أنه مَا قَصَدَ إلاّ مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه، فكان مقتضى إبطال ظِنّتِهم أن يَنفي أن يريد مجرد مخالفتهم، بدليل قوله عقبه {إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استطعت}. فمعنى قوله: {وما أريد أن أخالفكم} أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم...
فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية. وفي هذا ما يدلّ على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود. وقسم ينتقد ليبيّن وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه. وعلى هذا الوجه يتعلّق {إلى ما أنهاكم} بفعل {أريد} وكذلك {أن أخالفكم} يتعلق ب {أريد} على حذف حرف لام الجر. والتقدير: ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم، أي لمحبة خلافكم. وجملة {إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استطعت} بيان لجملة {ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} لأنّ انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبيّنهُ بأنّ الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح، فالقصر قصر قلب، وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول: ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح... ولما بيّن لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال: {وما توفيقي إلاّ بالله} فسمّى إرادته الإصلاح توفيقاً وجعله من الله لا يحصل في وقت إلاّ بالله، أي بإرادته وهديه، فجملة {وما توفيقي إلاّ بالله} في موضع الحال من ضمير {أريد}. والتوفيق: جعل الشيء وفقاً لآخر، أي طبقاً له، ولذلك عرفوه بأنه خلقُ القدرة والدّاعية إلى الطاعة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن قالوا للنبي كما فهمنا، إن ما أنت عليه من عقل ورشد يمنعك من دعوتنا إلى ترك ما عليه آباؤنا، وإلى منع متاجرنا، ومكاسبنا، يقول لهم مؤكدا أمورا ثلاثة: الأمر الأول: أنه على بينة من ربه، وإنه مبعوث لهذه الدعوة، ولذا يقول منبها: {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} وفي قوله: {أرأيتم} تنبيه الاستفهام فيه للتقرير وإثارة الانتباه الشديد، وقوله: {إن كنت على بينة من ربي {(إن) هنا مخففة من نون التوكيد، أي أنه الأمر، والثاني {كنت على بينة} أي بيان برسالتي من ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئون الوجود. الأمر الثاني: أن الله رزقه رزقا حسنا طيبا لا ظلم ولا تطفيف ولا تدليس ولا بخسا للناس بغير حق وأريد منكم رزقا، ولكن أريده رزقا حلالا طيبا، وفي ذلك دعوة إلى القدوة به. الأمر الثالث: إنه يطبق على نفسه ما يدعوهم إليه فيقول: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}، أي أن اقصد ما نهيتكم عنه وأنتم مولون، أي إني أبتدئ بالأخذ بالنهي في الأمور التي نهيتكم فلا أنهاكم وأفعل ما أنهاكم عنه، وذلك ليتخذوا منه قدوة طيبة، ولا أخلفكم أي لا أقصد خلفكم إلى ما نهيتكم، ثم بين أن ما يدعوهم إليه هو الخير الذي فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم وإصلاح نفوسهم وجماعتهم، فقال: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لكن شعيبا لا يسلك في الرد على قومه مسلكهم في المراء والاستهزاء، بل يرد عليهم الرد اللائق بمقام الأنبياء والمصلحين، مؤكدا لهم أن التعليمات التي بلغها إليهم عن ربهم ليست موجهة إليهم دونه، بل هو أول من ينفذها، وأنه ليس ممن يأمر بالبر غيره، ثم ينسى نفسه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}. ثم عقب شعيب على ما دار بينه وبين كفار قومه بما يوضح الهدف الأساسي، من كل رسالة إلهية بعث الله بها إلى الناس، وهذه الرسالة تتلخص أولا وأخيرا في إصلاح أحوال الناس إصلاحا شاملا، تصلح معه عقيدتهم، وتصلح معه شريعتهم، ويصلح معه سلوكهم، ويصلح معه مجتمعهم، وتصلح معه معايشهم، وتصلح معه علاقاتهم.. وهكذا يتسرب الإصلاح إلى كل زاوية من زوايا حياتهم الظاهرة والباطنة، فيصبحون أمة فاضلة وصالحة، ويصبح مجتمعهم مجتمعا فاضلا وصالحا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا على لسان شعيب عليه السلام {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب}. وها هنا كلمتان في غاية الأهمية لا بد من الوقوف عندهما ولو قليلا، ألا وهما كلمة {الإصلاح} وكلمة {التوفيق}. فكلمة الإصلاح تعني على العموم الإتيان بما هو صالح ونافع ومناسب، من الصلاح، ضد الفساد، وأصل معنى "الفساد "في لغة العرب زوال منفعة الشيء وتعذر المقصود منه، وأطلق الفساد في لسان الشرع على الشرك بالله الذي هو منبع جميع الضلالات والبدع، وعلى إذاية الخلق، كما في قوله تعالى: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] سواء كانت تلك الإذاية عامة لمجموعهم، أو خاصة ببعضهم، فيكون الصلاح الذي هو ضد الفساد عبارة عن سلوك طريق الهدى والاستقامة، والعمل على نفع الخلق نفعا عاما أو خاصا، ويكون {الصالح} هو الذي قام بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد. والمراد بكلمة {التوفيق} هنا ضد الخذلان، من "الوفق بين الشيئين"، بمعنى التحامهما، ولم ترد كلمة التوفيق بمعنى عدم الخذلان في آية أخرى من كتاب الله. ونعمة التوفيق بهذا المعنى من أجل النعم التي أنعم الله بها على الخواص من عباده، فمن رزق نعمة التوفيق فقد رزق خيرا كثيرا
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ يا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} لما أعيشه في مسألة الإيمان من وضوح الرؤيا والدلائل والبينات التي أكرمني بها الله، إلى درجة عدم إحساسي بأيّ حالة من حالات الشك والريب في صحة ما أنا عليه، وفي صدق ما أدعو له، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} بما أغدقه علي من نعمه وألطافه، وبما رزقني من رسالته، فلا بد لي من أن أقف لأدعو، وأتحرّك لأتحدّى بالأسلوب الذي يحقق القناعة للفكر، ويركّز القوة للموقف، ويبعث الامتداد في الدعوة، وليست المشكلة هي أن يرضى الناس أو لا يرضوا، بل كل مشكلتي، هي أن يرضى الله عما أقوم به في مجال تأدية الرسالة، وإخلاص الدعوة. {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، فلم أنهكم عن شيء إلا وقد ألزمت نفسي بتركه، انطلاقاً من قناعتي بما يتضمنه من المفسدة، وما يؤدّي إليه من الضرر، وبذلك فإن موقفي ينطلق من موقع القناعة والإيمان، لا من موقع الرغبة في التحكّم بكم، والتضييق عليكم، والتقييد لحريتكم، كما تزعمون. لأجل ذلك، كان لا بد لي من إثارة الفكرة أمامكم، لحثكم على الدخول معي في نقاش فكريّ حولها، ولكنكم واجهتم المسألة باللاّمبالاة، وابتعدتم عن مسؤولية ما تحملونه من عقيدة، وما يُلقى عليكم من فكر، فاستسلمتم لعقائد آبائكم التي لا ترتكز على أساس، ولحرية الأهواء التي لا تخضع لقاعدة، فوقفتم هذا الموقف السلبيّ الساخر المتعنِّت. إن ذلك شأنكم في التصرف الذي سوف تتحملون مسؤوليته أمام الله، في الدنيا والآخرة، أما أنا فسأبقى في ساحة الرسالة من أجلكم، لأقدّم لكم النصح الذي يصلح أمر دنياكم وآخرتكم. دين الله لإصلاح الإنسان والحياة {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} هذا هو الشعار الذي أرفعه في حركة الرسالة، وهذا هو مضمون مفاهيمها وتشريعاتها، وهذا هو الهدف الذي أسعى إليه من وراء موقفي معكم ومع الناس، فليس لدي هدفٌ شخصيّ في ما أدعوكم إليه، ولا أريد ممارسة السيطرة عليكم ولا التحكم بكم، بل كل ما أريده تأدية الرسالة في إصلاح الإنسان والحياة، على هدى دين الله، ولذا فإنني ألتزم في نفسي وفي حياتي العملية بما أدعوكم إليه، وهل يريد الإنسان لنفسه إلا الخير، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} وسأستمر في السير إلى الهدف، متطلعاً إلى توفيق الله ورعايته، معتمداً على الله فهو الذي يهيئ لعباده الأسباب، ويدبّر لهم الأمور. الله هو الكافي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في كل ما أريد أن أقدم عليه، في إمكاناتي الذاتية التي رزقني بها الله، وفي كل ما يمكن أن يواجهني في حاضر الحياة ومستقبلها، من تهاويل المجهول الذي جعل الله أمره بيده، فهو الكافي له، والحامي منه، لأنه يكفي رسله من كل شيء، في حدود الحكمة والمصلحة، ولا يكفي منه شيء، لأنه القادر على ما لا يقدرون عليه، والمهيمن على كل شيء من مخلوقاته الناطقة والصامتة، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فهو المرجع في الدنيا، والملاذ في الآخرة، وإليه المصير. وهذا هو موقف القوة الواعية التي أراد شعيب أن يعيشها في نفسه لئلا تهتز أمام ضغوطهم، وليبنيها لهم، حتى يشعروا بطبيعة القوة التي يملكها بالاعتماد على الله، والتوكل عليه في جميع أموره مما يجعل لموقفه قوة بارتكازه على الغيب أولاً، وعلى قوة شعيب الذاتية ثانياً...