الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

قوله تعالى : " قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أي أفلا أنهاكم عن الضلال ؟ ! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة ، وأنه اعتقادهم فيه . ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم : ( يا إخوة القردة ){[8828]} فقالوا : يا محمد ما علمناك جهولا ! .

مسألة : قال أهل التفسير : كان مما ينهاهم عنه ، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم ، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القُرَاضة ، وكانوا يتعاملون على الصحاح عَدًّا ، وعلى المقروضة وزنا ، وكانوا يبخسون في الوزن . وقال ابن وهب قال مالك : كانوا يكسرون الدنانير والدراهم ، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم وغيرهما ، وكسرهما ذنب عظيم . وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ، فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها ، وظهرت فائدتها ، وإذا كسرت صارت سلعة ، وبطلت منها الفائدة ، فأضر ذلك بالناس ؛ ولذلك حرم . وقد قيل في تأويل قوله تعالى : " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون{[8829]} " [ النمل : 48 ] أنهم كانوا يكسرون الدراهم ، قاله زيد بن أسلم . قال أبو عمر بن عبد البر : زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي .

مسألة : قال أصبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي : من كسرها لم تقبل شهادته ، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر ، وليس هذا بموضع عذر ، قال ابن العربي : أما قوله : لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة ، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر ، وأما قوله : لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد ، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه ، أو خفي وجه الصدق فيه ، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك .

مسألة : إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك ، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال : ما هذا ؟ قال رجل : يقطع الدنانير والدراهم ، قال ابن المسيب : هذا من الفساد في الأرض ، ولم ينكر جلده ، ونحوه عن سفيان . وقال أبو عبدالرحمن النجيبي : كنت قاعدا عند عمر بن عبد العزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة{[8830]} فأتى برجل يقطع الدراهم{[8831]} وقد شهد عليه فضربه وحلقه ، وأمر فطيف به ، وأمره أن يقول : هذا جزاء من يقطع الدراهم ، ثم أمر أن يرد إليه ، فقال : إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم ، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع . قال القاضي أبو بكر بن العربي : أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه ، وأما حلقه فقد فعله عمر ، وقد كنت أيام الحكم [ بين الناس ]{[8832]} أضرب وأحلق ، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية ، وطريقا إلى التجمل به في الفساد ، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية ، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن ، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة ، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها ، فإن الكسر إفساد الوصف ، والقرض تنقيص للقدر ، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء ، فإن قيل : أليس الحرز أصلا في القطع ؟ قلنا : يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها ، وحرز كل شيء على قدر حاله ، وقد أنفذ ذلك ابن الزبير ، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم . وقد قال علماؤنا المالكية : إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه ، ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك ، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب ، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة . قال ابن العربي : وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها ، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم ، إلا أني كنت محفوفا بالجهال ، فلم أجبن{[8833]} بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى .

قوله تعالى : " ورزقني منه رزقا حسنا " أي واسعا حلالا ، وكان شعيب عليه السلام كثير المال ، قاله ابن عباس وغيره . وقيل : أراد به . الهدى والتوفيق ، والعلم والمعرفة ، وفي الكلام حذف ، وهو ما ذكرناه ، أي أفلا أنهاكم عن الضلال ! وقيل : المعنى " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أتبع الضلال ؟ وقيل : المعنى " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أتأمرونني{[8834]} بالعصيان في البخس والتطفيف ، وقد أغناني الله عنه{[8835]} . " وما أريد أن أخالفكم " في موضع نصب ب " أريد " . " إلى ما أنهاكم عنه " أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه ، كما لا أترك ما أمرتكم به . " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " أي ما أريد إلا فعل الصلاح ، أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل ، وآخرتكم بالعبادة ، وقال : " ما استطعت " لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة . و " ما " مصدرية ، أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي . " وما توفيقي " أي رشدي ، والتوفيق الرشد . " إلا بالله عليه توكلت " أي اعتمدت . " وإليه أنيب " أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب . وقيل : إليه أرجع في الآخرة . وقيل : إن الإنابة الدعاء ، ومعناه وله أدعو .


[8828]:في ع: القردة والخنازير. وقد مضى في ج 6 ص 236 أنه أيضا من قول المسلمين لهم.
[8829]:راجع ج 13 ص 215.
[8830]:في ع: بالمدينة، وفي و: أمير المؤمنين.
[8831]:من ع و ز و ك و و وي.
[8832]:من ع و ي.
[8833]:من ع و في ز و و و ي: أحب.
[8834]:في ع: أفتأمرونني.
[8835]:من ع و ي.