{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي : لأجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض مصلحتهم ، ولكنهم أبوا إلا تماديا على باطلهم ، ونفورا عن الحق ، { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام ، { وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } أي تغطوا بها غطاء يغشاهم بعدا عن الحق وبغضا له ، { وَأَصَرُّوا } على كفرهم وشرهم { وَاسْتَكْبَرُوا } على الحق { اسْتِكْبَارًا } فشرهم ازداد ، وخيرهم بعد .
ثم أضاف إلى فرارهم منه ، حالة أخرى . تدل على إعراضهم عنه ، وعلى كراهيتهم له ، فقال : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا } .
وقوله : { كُلَّمَا } معمول لجملة : { جعلوا } التى هى خبر إن ، واللام فى قوله { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } للتعليل .
والمراد بأصابعهم : جزء منها . واستغشاء الثياب معناه : جعلها غشاء ، أى : غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه ، ومتعلق الفعل " دعوتهم " محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه .
والمعنى : وإنى - يا مولاى - كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتى فيما أمرتهم به ، لكى تغفر لهم ذنوبهم . . ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا قولى ، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم . وأبصارهم حتى لا يرونى ، وإلا أن { وَأَصَرُّواْ } إصرارا تاما على كفرهم { واستكبروا استكبارا } عظيما عن قبول الحق .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد صورت عناد قوم نوح ، وجحودهم للحق ، تصويرا بلغ الغاية فى استحبابهم العمى على الهدى .
فهى - أولا - جاءت بصيغة " كلما " الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح - عليه السلام - أى : فى كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض .
وهى - ثانيا - عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله - تعالى - : { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ } . وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة فى إرادة سد المسامع ، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها فى آذانهم لفعلوا . حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم .
فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل ، لعلاقة البعضية ، حيث أطلق - سبحانه - الكل وأراد البعض ، مبالغة فى كراهيتهم لسماع كلمة الحق .
وهى - ثالثا - عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله - تعالى - : { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أى : بالغوا فى التَّغطِّى بها ، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا .
وهذا كناية عن العداوة الشديدة ، ومنه قول القائل : لبس لى فلان ثياب العداوة .
وهى - رابعا - قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك ، بل أضافوا إليه الإصرار على الكفر - وهو التشدد فيه ، والامتناع من الإِقلاع عنه مأخوذ من الصَّرة بمعنى الشدة - والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق .
فقد أفادت هذه الآية ، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا ، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم ، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا ، حيث أصروا على كفرهم ، واستكبروا على اتباع الحق .
فإذا لم يستطيعوا الفرار ، لأن الداعي واجههم مواجهة ، وتحين الفرصة ليصل إلى أسماعهم بدعوته ، كرهوا أن يصل صوته إلى أسماعهم . وكرهوا أن تقع عليه أنظارهم ، وأصروا على الضلال ، واستكبروا عن الاستجابة لصوت الحق والهدى : ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) . . وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها ؛ وإصرارهم هم على الضلال . وتبرز من ثناياها ملامح الطفولة البشرية العنيدة . تبرز في وضع الأصابع في الآذان ، وستر الرؤوس والوجوه بالثياب . والتعبير يرسم بكلماته صورة العناد الطفولي الكامل ، وهو يقول : إنهم ( جعلوا أصابعهم في آذانهم )وآذانهم لا تسع أصابعهم كاملة ، إنما هم يسدونها بأطراف الأصابع . ولكنهم يسدونها في عنف بالغ ، كأنما يحاولون أن يجعلوا أصابعهم كلها في آذانهم ضمانا لعدم تسرب الصوت إليها بتاتا ! وهي صورة غليظة للإصرار والعناد ، كما أنها صورة بدائية لأطفال البشرية الكبار !
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } أي : سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه . كما أخبر تعالى عن كفار قريش : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] .
{ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } قال ابن جريح ، عن ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم . وقال سعيد بن جبير ، والسدي : غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول .
{ وَأَصَرُّوا } أي : استمروا على ما هم فيه{[29343]} من الشرك والكفر العظيم الفظيع ، { وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } أي : واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له .
وقوله : وإنّي كُلَما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ يقول جلّ وعزّ : وإني كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك ، والعمل بطاعتك ، والبراءة من عبادة كلّ ما سواك ، لتغفر لهم إذاهم فعلوا ذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا دعائي إياهم إلى ذلك وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ يقول : وتغشوا في ثيابهم ، وتغطوا بها لئلا يسمعوا دعائي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ لئلا يسمعوا كلام نوح عليه السلام .
وقوله : وأصَرّوا يقول : وثبتوا على ما هم عليه من الكفر وأقاموا عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأصَرّوا قال : الإصرار إقامتهم على الشرّ والكفر .
وقوله : وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارا يقول : وتكبروا فتعاظموا عن الإذعان للحقّ ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة .
وإني كلما دعوتهم إلى الإيمان اتغفر لهم بسببه جعلوا أصابعهم في آذانهم سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة واستغشوا ثيابهم تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة وأصروا وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها واستكبروا عن اتباعي استكبارا عظيما .
وقوله : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } معناه : ليؤمنوا فيكون ذلك سبب الغفران . وقوله تعالى : { جعلوا أصابعهم في آذانهم } يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إعراضهم ، وشدة رفضهم لأقواله ، وكذلك قوله : { استغشوا ثيابهم } معناه : جعلوها أغشية على رؤوسهم ، والإصرار الثبوت على معتقد ما ، وأكثر استعماله في الذنوب .