اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا} (7)

قوله : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } ، أي : إلى سبب المغفرةِ ، وهي الإيمانُ بك والطاعة لك { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ } لئلاَّ يسمعُوا دُعائِي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أي : غطُّوا بها وجوههم لئلاَّ يرون .

قال ابن عبَّاسٍ : جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلاَّ يسمعوا كلامي ، فاستغشاءُ الثِّياب إذن زيادة في سدِّ الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت ، أو ليعرفوه إعراضهم عنه{[57987]} .

وقيل : هو كنايةٌ عن العداوةِ ، يقال : لبس فلانٌ ثياب العداوةِ «وأصَرُّوا » على الكفر فلم يتوبوا ، «واسْتَكْبَرُوا » عن قبول الحق ، وهو قولهم : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون }[ الشعراء : 111 ] .

قوله : «لِتَغْفِرَ » ، يجوز أن تكون للتعليل ، والمدعو إليه محذوفٌ ، أي : دعوتهم للإيمان بك لأجلِ مغفرتك لهم ، وأن تكونَ لام التَّعديةِ ، ويكون قد عبَّر عن السبب بالمسبب ، الذي هو حظهم ، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سببٌ في الغفران .

و «جَعلُوا » ، هو العامل في «كُلَّمَا » وهو خبر «إنِّي » .

قوله : «جِهَاراً » ، يجوز أن تكون مصدراً من المعنى ؛ لأنَّ المعنى يكون جهاراً وغيره ، فهو من باب «قعد القُرفُصَاء » ، وأن يكون المرادُ ب «دعوتهم » : جاهرتهم . وأن يكون نعت مصدر محذوف أي : دعاء جهاراً .

وأن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : مجاهراً ، أو ذا جهارٍ ، أو جعل نفس المصدر مبالغة .

قال الزمخشريُّ : «فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلاً ونهاراً ، ثم دعاهم جهاراً ، ثُمَّ دعاهم في السرِّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعواتٍ مختلفاتٍ ، حتى يصح العطفُ .

قلتُ : قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذي يأمُر بالمعروفِ ، وينهى عن المنكرِ في الابتداء بالأهون ، والترقي إلى الأشدِّ فالأشدِّ ، فافتتح في المناصحة بالسرِّ فلما لم يقبلوا ثَنَّى بالمجاهرة ، فلمَّا لم يقبلوا ثلَّث بالجمع بين السرِّ والإعلان ، ومعنى " ثُمَّ " للدلالة على تباعد الأحوال ؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار ، والجمعُ بين الأمرين ، أغلظُ من إفراد أحدهما » .

وقال أبو حيان{[57988]} : «وتكرر كثيراً له أنَّ " ثُمَّ " للاستبعاد ، ولا نعلمه لغيره » .

وقوله : «اسْتِكبَاراً » . قال القرطبيُّ{[57989]} : تفخيم .


[57987]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/424) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
[57988]:ينظر: البحر المحيط 8/339.
[57989]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/194.