118- هذا ويمعن المشركون من العرب في عنادهم لمحمد ، فيطلبون إليه مثل ما طلبته الأمم السابقة من أنبيائهم ، فقد قالوا : إنهم لم يؤمنوا به إلا إذا كلمهم الله وجاءتهم آية حسية تدل على صدقه ، كما قال بنو إسرائيل لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله ويكلمنا ، وكما طلب أصحاب عيسى منه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، وما ذلك إلا لأن قلوب الكفار والمعاندين في كل أمة متشابهة ، وأنه لا يستبين الحقَّ إلا من صفت بصائرهم وأذعنت عقولهم لليقين ، وطلبت الحق .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
أي : قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم : هلا يكلمنا ، كما كلم الرسل ، { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } يعنون آيات الاقتراح ، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الكاسدة ، التي تجرأوا بها على الخالق ، واستكبروا على رسله كقولهم : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } الآية ، وقالوا : { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } الآيات وقوله : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات .
فهذا دأبهم مع رسلهم ، يطلبون آيات التعنت ، لا آيات الاسترشاد ، ولم يكن قصدهم تبين الحق ، فإن الرسل ، قد جاءوا من الآيات ، بما يؤمن بمثله البشر ، ولهذا قال تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فكل موقن ، فقد عرف من آيات الله الباهرة ، وبراهينه الظاهرة ، ما حصل له به اليقين ، واندفع عنه كل شك وريب .
ثم أورد القرآن بعد ذلك الشبهات التي أثاروها حول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأجاب عنها بما يبطلها فقال تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَآ . . . }
عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقولن فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله هذه الآية .
فالآية الكريمة معطوفة على قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً . . . } ومعنى الآية الكريمة . { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } علماً نافعاً أمثال هؤلاء اليهود الذين طالبوك بالمطالب المتعنتة - يا محمد - { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله } إما مشافهة ، أو بواسطة الوحي إلينا لا إليك ، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك ، قالوا هذا على وجه العناد والجحود أن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقاً .
وقد رد الله عليهم بقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } أي : مثل هذا القول المتعنت ، قال الجاحدون من أسلافهم الذين أرسل الله إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما لاقاه من قومه مثل ما لقيه الرسل من قبله .
{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي تشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في العناد والضلال .
{ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : جعلناها بينة واضحة في ذاتها لمن شأنهم الإِخلاص في طلب الحق أينما كان ، فيتجهون إليه عن طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء موقنة بجلال الحق ووجوب الطاعة .
قال الإِمام الرازي : وتقرير شبهتهم أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء ، اختار أقرب الطرق إليه ، وبما أن الله قد كلم موسى وكلمك يا محمد فلم لا يكلمنا مشافهة ، أو يخصك بمعجزة يتجلى من ورائها صدق نبوتك ، وهذا منهم طعن في أن القرآن معجزة ، لأنهم لو أقروا بذلك لاستحال أن يقولوا ما قالوه .
فأجابهم الله عن هذه الشبهة بقوله { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } وحاصل هذا الجواب : أنا قد أيدنا قول محمود بالمعجزات ، وبينا صحة قوله بالقرآن وسائر الحجج ، فكان طلب هذه الزوائد من باب العنت . وعليه فلن تجاب مطالبكم لوجوه منها :
1 - لو كان في معلوم الله أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآيات لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لازدادوا لجاجاً .
2 - أن حصول الدلالة الواحدة تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب ، فإذا لم يكتف بها ، كان طلبه من باب المعاندة .
3 - ربما كانت كثرة المعجزات وتعاقبها تقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت كان انخراق العادة عادة . فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة .
هذا ، وبعض المفسرين يرى أن المراد ب { الذين لاَ يَعْلَمُونَ } اليهود ، وبعضهم يرى أن المراد يهم مشركو العرب وبعضهم يرى أن المراد يهم النصارى ، ونحن نرى أن اللفظ صالح لأن يندرج تحته جميع هذه الطوائف قضاء لحق الموصول المفيد للتعميم ، ولكنا نختار أن اليهود هم المقصودون قدصاً أولياً من هذه الآية للأسببا الآتية :
1 - الآية ضمن سلسلة طويلة من الآيات السابقة عليها واللاحقة لها ، وكلها تتحدث عن بني إسرائيل وأحوالهم وأخلاقهم .
2 - جملة { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } قرينة على أن المقصود بالذين لا يعلمون هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي ، حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى مثل هذه المطالب ، لقد قالوا له : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } وقالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وطلبوا منه كثيرا من المطالب المتعنتة .
3 - الآية مدنية ومن سورة البقرة التي هي من أوائل ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ومن المعروف أن حديث القرآن المدني عن أهل الكتاب بصفة عامة ، وعن اليهود بصفة خاصة ، أكثر من حديثه عن مشركي العرب ، لأن البيئة المدنية صلتها بأهل الكتاب أشد وألصق .
4 - سبب نزول الآية الذي ذكرناه يؤيد أن اليهود مقصودون قصداً أولياً في هذه الآية .
5 - القائلون بأن المراد بالذين لا يعلمون مشركوا العرب ، دعموا قولهم بأن آيات القرآن التي تحكى عنهم أمثال هذه المقترحات مستفيضة . وكأنهم يستبعدون أن تصدر مثل هذه الأسئلة عن اليهود .
وردنا عليهم القرآن الكريم قد حكى عن اليهود أمثال هذه الأسئلة بدليل قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } 6 - الإِمام ابن جرير رجح أن المراد ب { الذين لاَ يَعْلَمُونَ } النصارى ، مستدلا بأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، فالآية السابقة على هذه الآية تقول .
{ وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } والنصارى هم الذين قالوا ذلك .
وهذا الاستدلال لا نوافقه عليه لما يأتي :
( أ ) لأن الآية ليست في سياق خبر الله عن النصارى ، وإنما هي في سياق خبر الله عن اليهود ، الذين زخرت سورة البقرة ببيان مواقفهم وحجاجهم وأخلاقهم في أكثر من مائة آية سابقة ولاحقة من هذه السورة .
( ب ) ليس النصارى وحدهم هم الذين قالوا اتخذ الله ولداً وإنما اليهود أيضاً قالوا ذلك ، قال تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } ( ج ) لم يأت الإِمام ابن جرير بدليل واحد ينقض به رأى القائلين بأن المراد بالذين لا يعلمون اليهود ، ولم يتعرض للنص الذي أورده ابن عباس في سبب نزول الآية بالتضعيف أو الإِعلال ، مع أنه انتقد رأى القائلين بأن المراد بهم مشركو العرب ( بأنه قول لا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب ) .
هذا وبعد ذلك الأدلة على ما ذهبنا إليه نعود فنقول مرة أخرى : إننا لا نمانع في أن يكون المراد بالذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة ولكنا نرجح أن اليهود هم المقصودون قصداً أولياً مهما دخل غيرهم معهم في السياق ، وإن الآية قد نزلت للرد على مطالبهم المتعنتة واقتراحاتهم التي لا خير من ورائها ، ومحاولاتهم الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد لله - سبحانه - وتصحيح هذه المقولة وردها ، يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب :
( وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ! كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) .
والذين لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين ؛ إذ لم يكن لديهم علم من كتاب . وكثيرا ما تحدوا النبي [ ص ] أن يكلمهم الله أو أن تأتيهم خارقة من الخوارق المادية . . وذكر هذه المقولة هنا مقصود لبيان أن الذين من قبلهم - وهم اليهود وغيرهم - طلبوا مثل هذا من أنبيائهم . فلقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة ، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة . فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة ، وشبه في التصور ، وشبه في الضلال :
فلا فضل لليهود على المشركين . وهم متشابهو القلوب في التصور والعنت والضلال :
( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) . .
والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيء القلوب للتلقي الواصل الصحيح .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فَلْيُكَلمْنا حتى نسمع كلامه . فأنزل الله في ذلك من قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }
وقال مجاهد [ في قوله ]{[2605]} { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } قال : النصارى تقوله .
وهو اختيار ابن جرير ، قال : لأن السياق فيهم . وفي ذلك نظر .
[ وحكى القرطبي { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } أي : لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، قلت : وظاهر السياق أعم ، والله أعلم ]{[2606]} .
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي في تفسير هذه الآية : هذا قول كفار العرب { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ] {[2607]} } قالوا : هم اليهود والنصارى . ويؤيد هذا القول ، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب ، قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [ الأنعام : 123 ] .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } [ الإسراء : 90 - 93 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [ الفرقان : 21 ] ، وقوله : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، إنما هو الكفر والمعاندة ، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] وقال تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً }
وقوله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 52 ، 53 ] .
وقوله : { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ، لمن أيقن{[2608]} وصدق واتبع الرسل ، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى . وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] .
{ وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ } فقال بعضهم : عنى بذلك النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز :
{ وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلّمُنا اللّهُ أوْ تَأتِينا آيَةٌ } قال : النصارى تقولُه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله وزاد فيه { وَقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } : النّصَارَى .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت رسولاً من عند الله كما تقول ، فقل لله عز وجلّ فليكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِينَا آيَةٌ }الآية كلها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك مشركي العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ أوْ تَأتِينا آيَةٌ }وهم كفار العرب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ } قال : هم كفار العرب .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }أما الذين لا يعلمون : فهم العرب .
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل : إن الله تعالى عنى بقوله : { وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } : النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه وادّعائهم له ولدا . فقال جل ثناؤه ، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله : اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا تمنوا على الله الأباطيل ، فقالوا جهلاً منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون : لولا يكلمنا الله كما يكلم رسوله وأنبياءه ، أو تأتينا آية كما أتتهم ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه ، ولا يؤتي آيةً معجزةً على دعوى مدّعٍ إلا لمن كان محقّا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده . فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادّعاء البنين والبنات له ، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه ، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه . وقال الزاعم : إن الله عنى بقوله : وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ : العرب ، فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب . والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه ، لأنه ادّعى ما لا برهان على صحته ، وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر على أحد .
وأما معنى قوله : { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }فإنه بمعنى : هلاّ يكلمنا الله كما قال الأشهب بن رميلة :
تَعُدّونَ عَقْرَ النّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَي لَوْلاَ الكَميّ المُقَنّعا
بمعنى : فهلاّ تعدّون الكمي المقنع ؟ كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَوْلا يُكَلّمُنَا اللّهُ }قال : فهلاّ يكلمنا الله .
قال أبو جعفر : فأما الآية فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة . وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : هلاّ تأتينا آية على ما نريده ونسأل ، كما أتت الأنبياء والرسل فقال عز وجلّ : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } .
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ، فقال بعضهم في ذلك بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ }هم اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }اليهود .
وقال آخرون : هم اليهود والنصارى ، لأن الذين لا يعلمون هم العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : { قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }يعني اليهود والنصارى وغيرهم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قالوا يعني العرب ، كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ }يعني اليهود والنصارى .
قال أبو جعفر : قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : { وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّهُ }هم النصارى ، والذين قالت مثل قولهم هم اليهود ، وسألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة ، وأن يسمعهم كلام ربهم ، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، وسألوا من الاَيات ما ليس لهم مسألته تحكّما منهم على ربهم ، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات . فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها ، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله . فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه ، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفِرْيَة عليه ، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام . وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }قلوب النصارى واليهود .
وقال غيره : معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { تَشَابَهت قلوبُهم } يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
وغير جائز في قوله : تَشَابَهَتْ التثقيل ، لأن التاء التي في أوّلها زائدة أدخلت في قوله : «تفاعل » ، وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد ، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما ، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال ، والأخرى منها التي في «تفاعل » ، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل فيقال : تشابه بعد اليوم قلوبنا . فمعنى الآية : وقالت النصارى الجهال بالله وبعظمته : هلاّ يكلمنا الله ربنا كما كلم أنبياءه ورسله ، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد ؟ قال الله جل ثناؤه : فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم . قال مَنْ قبلهم من اليهود ، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة ، ويؤتيهم آية ، واحتكموا عليه وعلى رسله ، وتمنوا الأماني . فاشتهبت قلوب اليهود والنصارى في تمرّدهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله ، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَيّنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { قَدْ بَيّنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير ، وأعدّ لهم العذاب المهين في معادهم ، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا ، وأعدّ لهم الخزي والعذاب الأليم في الاَخرة ، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها . فاعْلِموا الأسباب التي من أجلها استحقّ كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك ، وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة . فأخبر الله جل ثناؤه أنه بيّن لمن كانت هذه الصفة صفته ما بيّن من ذلك ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه ، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشكّ فيه . وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب ، وذلك منفيّ عن خبر الله عز وجل .