ثم قال تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }
لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد ، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة ، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما ! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء ، فكمال العبد متوقف على الحكمة ، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به ، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر ، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره ، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك ، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق ، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه ، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة ، والعقول التامة ، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم ، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد ، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب ، فلهذا قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب }
ثم قال - تعالى - : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم .
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو وجه النظم " .
و { الْحِكْمَةَ } مشتقة من حكم بمعنى منع ، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس وحكمة لأنها تمنعه من الجموح . أو هي في الأصل مصدر من الإِحكام وهو الإِتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها .
والحكمة بالنسبة للإِنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق ، وتوجه الإِنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة .
وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل ، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به .
والمعنى : أن الله - تعالى - الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } لأن الإِنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع ، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه ، وإلى الإِيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر ، وبذل كيكون سعيداً في دنياه وأخراه .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد - أي لا غبطة - إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله - تعالى - الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإِنسان لأنه أنفع شيء فيه .
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ، ودوافع الشر ، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة .
أي : وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية ، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به ، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله ، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة ، وأن الإِنفاق في سبيل الله هو نوع من الإِسراف والتبذير .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم ، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم .
يعطي عن سعة ، ويعلم ما يوسوس في الصدور ، وما يهجس في الضمير ، والله لا يعطي المال وحده ، ولا يعطي المغفرة وحدها . إنما يعطي ( الحكمة ) وهي توخي القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك :
( يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) . .
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . .
( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى ، ويتنبه فلا يغفل ، ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ؛ وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي : رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . . وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى : أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها ، بل يعينه عليها : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) . . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير .
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) . ( يؤتي الحكمة من يشاء . . . ) . .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما : طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار . . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة . . وإنما هو الهدى أو الضلال . وهو الحق واحد لا يتعدد . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ !
وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن{[4479]} . يعني : تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [ قد ]{[4480]} قرأه البر والفاجر . رواه ابن مَرْدُويه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : " رأس الحكمة مخافة الله " {[4481]} .
وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم . وقال إبراهيم النخَعي : الحكمة : الفهم . وقال أبو مالك : الحكمة : السنة . وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ، عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه{[4482]} غير أنه لا يوحى إليه " {[4483]} . رواه{[4484]} وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع{[4485]} عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر {[4486]} وقوله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد{[4487]} قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " {[4488]} .
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[4489]} .
وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام .