ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } .
الذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس ، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا{[584]} دالا على التأكيد ، وزيادة الحق ، فامتثل صلى الله عليه وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا ، من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أقرب الناس إليه ، ليكونوا قدوة لغيرهم . وليعلموا أن قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لن تنجيهم من عذاب الله ، ما استمروا على شركهم ، فقال - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } .
والعشيرة : أهل الرجل الذين يتكثر بهم ، و { الأقربين } هم أصحاب القرابة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات ، والأعمام والعمات وما يشبه ذلك .
وقد ذكر المفسرون أحاديث متعددة ، فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ، منها : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس قال : لما أنزل الله - تعالى - هذه الآية : " أتى النبى صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ، وهى كلمة يقوله المستغيث أو المنذر لقومه - فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجئ إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤى ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقى ؟ قالوا : نعم . قال : " فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ، وأنزل الله : ( تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) " .
قال الآلوسى : ووجه تخصيص عشيرته الأقربين بالذكر مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم : دفع توهم المحاباة ، وأن الاهتمام بشأنهم أهم ، وأن البداءة تكون بمن يلى ثم من بعده . .
أى : أن هذه الآية الكريمة ، لا تتعارض مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا ، لأن المقصود بها : البدء بإنذار عشيرته الأقربين ، ليكونوا أسوة لغيرهم .
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحذره من الشرك - وهو أبعد من يكون عنه - ليكون غيره أولى بالحذر . ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين . ويأمره بالتوكل على الله ، الذي يلحظه دائما ويرعاه :
( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل : إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم . وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم ) . .
وحين يكون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] متوعدا بالعذاب مع المعذبين ، لو دعا مع الله إلها آخر . وهذا محال ولكنه فرض للتقريب . فكيف يكون غيره ? وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين ? ! وليس هنالك محاباة ، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول ، لو ارتكب هذا الإثم العظيم !
وبعد إنذار شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] يكلف إنذار أهله . لتكون لمن سواهم عبرة ، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . .
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ! فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا بني عبد المطلب . يا بني فهر . يا بني لؤي . أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ? " قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ? وأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب . . . ) .
وأخرج مسلم - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين )قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ماشئتم " .
وأخرج مسلم والترمذي - بإسناده عن أبي هريرة - قال : لما نزلت هذه الآية . دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريشا فعم وخص فقال : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا . إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " . . .
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر ، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين ، ونفض يده من أمرهم ، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة ، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم ، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا ، وهو رسول الله . . وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه ، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم .
وقوله : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة ، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم .
وذُكر أن هذه الاَية لما نزلت ، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده ، فحذّرهم وأنذرهم . ذكر الرواية بذلك :
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت هذه الاَية : وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطّلِبِ ، يا فاطِمَةُ بِنْتَ مْحَمّد يا بَنِي عَبْد المُطّلِبِ إنّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، سَلُونِي مِنْ مالي ما شِئْتُمْ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ويونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لما نزلت وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «يا فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ ، وَيا صَفِيّةُ ابْنَةَ عَبْدِ المطّلِبِ » ثم ذكر نحو حديث ابن المقدام .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سلامة ، قال : قال عقيل : ثني الزهري ، قال : قال سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن : إن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ : «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللّهِ ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا عَبّاسُ بَنَ عَبْدِ المُطّلبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، سَلِيِني ما شِئْتِ ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا » .
حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : أخبرنا شُعيب عن الزهري ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قال : «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللّهِ » ثم ذكر نحو حديث يونس ، عن سلامة غير أنه زاد فيه «يا صَفِيّةُ عَمّةَ رَسُولِ اللّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا » ولم يذكر في حديثه فاطمة .
حدثني يونس ، قال : حدثنا سلامة بن روح ، قال : قال عقيل : ثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ جمع قريشا ، ثم أتاهم ، فقال لهم : «هَلْ فِيكُمْ غَرِيبٌ ؟ » فقالوا : لا إلا ابن أخت لنا لا نراه إلا منا ، قال : «إنّهُ مِنْكُمْ » ، فوعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لهم في آخر كلامه : «لا أعْرِفَنّ ما وَرَدَ على النّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ يَسُوقُونَ الاَخِرَةَ ، وَجِئْتُمْ إليّ تَسُوقُونَ الدّنْيا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ : «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللّهِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا عَبّاسُ بْنَ عَبْدِ المطّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، يا صَفِيّةُ عَمّةَ رَسُولِ اللّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شِيْئا ، يا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّد سَلِيِني ما شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت الحجاج يحدّث ، عن عبد الملك بن عمير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما أنزل الله : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «يا مَعْشَرَ قُرَيْش أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النّار ، يا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّار ، ألا إنّ لَكُمْ رَحِما سأبلّها ببِلالها » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، قال : لما نَزَلت هذه الاَية : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فعّم وخَصّ ، فقال : «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللّهِ ، يا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ بْنِ لُؤَيّ ، يا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدَ منافٍ ، يا مَعْشَرَ بَنِي هاشِمٍ ، يا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ » ، يقول لكلهم : «أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ ، يا فاطِمَةُ بِنْتِ مُحَمّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّارِ ، فإني وَاللّهِ ما أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا ، ألا إنّ لَكُمْ رَحِما سأبلّها ببِلالها » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو عثمان ، عن زُهير بن عمرو وقَبيصة بن مُخارق : أنهما قالا : أَنزل الله على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، فحدّثنا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه علا صخرة من جبل ، فعلا أعلاها حَجَرا ، ثم قال : «يا آلَ عَبْدِ مَنافاه ، يا صَباحاه ، إنّي نَذِيرٌ ، إنّ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ أَتى الجَيْشَ ، فَخَشِيَهُمْ عَلى أهْلِهِ ، فَذَهَبَ يَرْبَؤُههمْ ، فَخَشِيَ أنْ يَسْبِقُوهُ إلى أهْلِهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِهِمْ : يا صَباحاه » أو كما قال .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن قَسامة بن زهير ، قال : بلغني أنه لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ جاء فوضع أصبعه في أذنه ، ورفع من صوته ، وقال : «يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ وَاصَباحاهُ » قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عوف ، عن قسامة بن زهير ، قال : أظنه عن الأشعريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا أبو زيد الأنصاريّ سعد بن أوس ، عن عوف ، قال : قال قسامة بن زهير ، حدثني الأشعريّ ، قال : لما نزلت ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال : وضع أصبعيه في أذنيه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن نُمير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الاَية وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، ثم نادى : «يا صَباحاهُ » ، فاجتمع الناس إليه ، فبينَ رجل يجيء ، وبين آخر يبعث رسوله ، فقال : «يا بَنِي هاشِمٍ ، يا بَنِي عَبْدِ المُطّلبِ ، يا بَنِي فِهْرٍ ، يا بَنِي يا بَنِي ، أرأيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدّقْتُمُونِي ؟ » قالوا : نعم ، قالَ : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » فقال أبو لهب : تَبّا لكم سائَر اليوم ، ما دعوتموني إلا لهذا ؟ فنزلت : تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبِ وَتَبّ .
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : صَعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : «يا صباحاهُ » فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا له : مالَك ؟ فقال : «أرأيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ العَدُوّ مُصَبّحُكُمْ أوْ ممَسّيكُمْ ألا كُنْتُمْ تُصَدّقونَنِي ؟ » قالوا : بلى ، قال : «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . قال أبو لهب : تَبّا لك ، ألهذا دعوتنا أو جمعتنا ، فأنزل الله : تَبّتْ يَدَا أبي لَهَب . . . إلى آخر السورة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : لمّا نزلت هذه الاَية : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صَعِد الصفا ، فهتف : «يا صَباحاهُ » فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «يا بَنِي فُلانٍ ، يا بَنِي فُلانً ، يا بَنِي عَبدِ المُطّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ » ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدّقيّ ؟ » قالُوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : «فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » ، فقال أبو لهب : تبا لك ، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : تَبّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وقد تبّ ، كذا قرأ الأعمش ، إلى آخر السورة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على الصفا ، فقال : «يا صَباحاهُ »
قال : ثنا خالد بن عمرو ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، فقال : «يا صَباحاهُ » فجعل يُعَدّدُهم : «يا بَنِي فُلانٍ ، وَيا بَنِي فُلانٍ ، وَيا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عمرو بن مرّة الجَمَليّ ، قال : لما نزلت : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قال : أتى جبلاً ، فجعل يهتف : يا صَباحاهُ » ، فأتاه مَنْ خَفّ من الناس ، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رُسُلاً ، فجعلوا يجيئون يتّبعون الصوت فلما انتهوا إليه قال : «إنّ مِنْكُمْ مَنْ جاءَ لِيَنْظُرَ ، وَمِنْكُمْ مَنْ أَرْسلَ لينظرَ مَن الهاتفُ » ، فلما اجتمعوا وكثروا قال : «أرأيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً مُصَبّحَتُكُمْ مِنْ هَذَا الجَبَل ، أكُنْتُمْ مُصَدّقيّ ؟ » قالوا : نعم ، ما جرّبنا عليك كذبا ، فقرأ عليهم هذه الاَيات التي أنزلن ، وأنذرهم كما أُمِر ، فجعل ينادي : «يا قُرَيْشُ ، يا بَنِي هاشِمٍ » حتى قالَ : «يا بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ ، إنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عمرو : أنه كان يقرأ : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورَهْطَكَ المُخْلِصين .
قال : ثنا سَلَمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المِنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن عليّ بن أبي طالب : لما نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : «يا عليّ ، إنّ اللّهَ أمَرَنِي أنْ أنْذِرْ عَشِيرَتِي الأقْرَبِينَ » ، قال : «فضقت بذلك ذَرْعا ، وعرفت أنى متى ما أنادهم بهذا الأمر أَرَ منهم ما أكره ، فصمتّ حتى جاء جبرائيل ، فقال : يا محمد ، إنك إلاّ تفعلْ ما تؤمر به يعذّبْك ربك . فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عُسّا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطّلب ، حتى أكلمّهم ، وأبلغهم ما أمرت به » ، ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به . فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حِذْية من اللحم ، فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصّحفة ، قال : «خُذُوا باسم الله » ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وما أرى إلا مواضع أيديهم وَايْمُ الله الذي نفس عليّ بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم ، ثم قال : «اسْقِ النّاسَ » ، فجِئْتُهُمْ بذلك العُسّ ، فشربوا حتى رَوُوا منه جميعا ، وايمُ الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَرَه أبو لهَب إلى الكلام ، فقال : لَهَذا ما سحركم به صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «الغَدَ يا عليّ ، إنّ هَذَا الرّجُلَ قَد سَبَقَنِي إلى ما قَدْ سَمِعْتَ مِنَ القَوْلِ ، فَتفرّق القوم قبلَ أنْ أُكَلّمَهُمْ ، فَأعِدّ لَنا مِنَ الطّعامِ مِثْلَ الّذِي صَنَعْتَ ، ثُمّ اجمَعْهُمْ لي » ، قال : ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، قال : «اسْقِهِمْ » ، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتى رَوُوا منه جميعا ، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا بَنِي عَبْدِ المُطلِبِ ، إنّي وَاللّهِ ما أعْلَمُ شابا فِي العَرَبِ جاءَ قَوْمَهُ بأفْضَلَ مِمّا جِئْتُكُمْ بِهِ ، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدّنْيا والاَخِرَةِ ، وَقَدْ أمَرَنِي اللّهُ أنْ أدْعُوَكُمْ إلَيْهِ ، فَأيّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلى هَذَا الأَمْرِ ، عَلى أنْ يَكُونَ أخِي » وكَذَ وكَذَا ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت وإني لأحدَثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأخمشهم ساقا . أنا يا نبيّ الله أكونُ وزيرك ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : «إن هذا أخي » وكذا وكذا ، «فاسمعوا له وأطيعوا » ، قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح ، ثم قال : «يا بَنِي عَبْدِ المُطّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ ، يا بَنِي قُصَيّ » ، قال : ثم فَخّذ قريشا قبيلة قبيلة ، حتى مرّ على آخرهم ، «إنّي أدْعُوكُمْ إلى اللّهِ ، وأُنْذِرُكُمْ عَذَابَهُ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قال : أُمِر محمد أن ينذر قومه ، ويبدأ بأهل بيته وفصيلته ، قال : وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقّ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمَر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : وَلما نزلت : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمّدٍ ، يا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطّلِبِ ، اتّقُوا النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ بدأ بأهل بيته وفصيلته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بني هاشم ، فقال : «يا بني هاشم ، ألا لا ألْفِيَنّكُمْ تَأْتُونِي تَحْمِلُونَ الدّنْيا ، وَيأتِي النّاسُ يَحْمِلُونَ الاَخِرَةَ ، ألا إنّ أوْليائي مِنْكُمُ المُتّقُونَ ، فاتّقُوا النّارَ وَلَوْ بِشقّ تَمْرَةٍ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما نزلت هذه الاَية بدأ بأهل بيته وفصيلته قال : وشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى : وَاخْفِضْ جَناحَكَ لَمنِ اتّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .