فإن قلتم ، أو شككتم بصحته وحقيقته ، فسيقيم اللّه لكم ، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض ، وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة ، الدالة للمستبصر على الحق .
{ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } مما اشتملت عليه أبدانهم ، من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته ، وباهر قدرته ، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ، ونصر المؤمنين . { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } من تلك الآيات ، بيانًا لا يقبل الشك { أَنَّهُ الْحَقُّ } وما اشتمل عليه حق .
وقد فعل تعالى ، فإنه أرى عباده من الآيات ، ما به تبين لهم أنه الحق ، ولكن اللّه هو الموفق للإيمان من شاء ، والخاذل لمن يشاء .
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : أولم يكفهم على أن القرآن حق ، ومن جاء به صادق ، بشهادة اللّه تعالى ، فإنه قد شهد له بالتصديق ، وهو أصدق الشاهدين ، وأيده ، ونصره نصرًا متضمنًا لشهادته القولية ، عند من شك فيها .
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يطلع الناس فى كل زمان ومكان على دلائل وحدانيته وقدرته ، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه عنه ، فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق . . } .
والمراد بالآيات فى قوله { آيَاتِنَا } : الدلائل والبراهين الدالة على وحدانيته - سبحانه - وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم .
والآفاق : جمع أفق - كأعناق جمع عنق - وهو الناحية والجهة ، يقال : أفق فلان يأفق - كضرب يضرب - إذا سار فى آفاق الأرض وجهاتها المتعددة .
والمعنى : سنطلع الناس على دلائل وحدانيتنا وقدرتنا فى أقطارا لسموات والأرض ، من شمس وقمر ونجوم ، وليل ونهار ، ورياح وأمطار ، وزرع وثمار ، ورعد وبرق وصواعق ، وجبال وبحار .
سنطلعهم على مظاهر قدرتنا فى هذه الأشياء الخارجية التى يرونها بأعينهم ، كما سنطلعهم على آثار قدرتنا فى أنفسهم عن طريق ما أودعنا فيهم من حواس وقوى ، وعقل ، وروح ، وعن طريق ما يصيبهم من خير وشر ، ونعمة ونقمة .
ولقد صدق الله - تعالى - وعده ، ففى كل يوم بل فى كل ساعة ، يطلع الناس على أسرار جديدة فى هذا الكون الهائل ، وفى أنفسهم .
. وكلها تدل على وحدانيته - تعالى - وقدرته ، وعلى صحة دين الإِسلام الذى جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام .
وقوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } استئناف مسوق لتوبيخ الكافرين على عنادهم مع ظهور الأدلة على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه هو الحق المبين .
والهمزة للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والباء مزيدة للتأكيد ، وقوله { بربك } فاعل كفى .
والمعنى : ألم يغن هؤلاء الجاحدين عن الآيات الموعودة الدالة على صحة هذا الدين ، أن ربك - أيها الرسول الكريم - شهيد على كل شئ ، وعلى أنك صاقد فيما تبلغه عنه . . بلى إن فى شهادة ربك وعلمه بكل شئ ما يغنيك عن كل شئ سواه .
ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون . ويتجه إلى الكون العريض . يكشف عن بعض ما قدر فيه - وفي ذوات أنفسهم - من مقادير :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ? ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
إنه الإيقاع الأخير . وإنه لإيقاع كبير . . .
إنه وعد الله لعباده - بني الإنسان - أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء . وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق . هذا الدين . وهذا الكتاب . وهذا المنهج . وهذا القول الذي يقوله لهم . ومن اصدق من الله حديثاً ?
ولقد صدقهم الله وعده ؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم . وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد .
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين . فقد تفتحت لهم الآفاق . وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله .
لقد عرفوا أشياء كثيرة . لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير .
عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون . . إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس . وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين . وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم - وربما طبيعة كونهم ، إن صح ما عرفوه !
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه . إن صح أن هناك مادة . عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة . وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع . وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع . . في صور شتى : هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام !
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير . عرفوا أنه كرة أو كالكرة . وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس . وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره . وكشفوا عن شيء من باطنه . وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات . والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضاً !
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير ، وتصرف هذا الكون الكبير . ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس . ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه . ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم ، قد أخذت عن طريق العلم تثوب ، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق .
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون . فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير . عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله .
وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً . . إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم . لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه . ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء . .
ووعد الله ما يزال قائماً : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ . فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى . وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون ! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد . ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي . ولكن هذه الموجة تنحسر الآن . تنحسر - على الرغم من جميع الظواهر المخالفة - وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه ، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله . وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون :
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
يقول تعالى ذكره : سنُري هؤلاء المكذّبين ، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر ، آياتنا في الاَفاق .
واختلف أهل التأويل في معنى الاَيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم ، فقال بعضهم : عنى بالاَيات في الاَفاق وقائع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها ، وبقوله : وفِي أنْفُسِهِمْ فتح مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن المنهال ، في قوله : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ قال : ظهور محمد صلى الله عليه وسلم على الناس .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ يقول : ما نفتح لك يا محمد من الاَفاق وفِي أنْفُسِهِمْ في أهل مكة ، يقول : نفتح لك مكة .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أن يريهم نجوم الليل وقمره ، وشمس النهار ، وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الاَفاق . وقالوا : عنى بالاَفاق : آفاق السماء ، وبقوله : وفِي أنْفُسِهِمْ سبيل الغائط والبول . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ وفِي أنْفُسِهِمْ قال : آفاق السموات : نجومها وشمسها وقمرها اللاتي يجرين ، وآيات في أنفسهم أيضاً .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأوّل ، وهو ما قاله السديّ ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الاَفاق ، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم راؤوه ، بل الواجب أن يكون ذلك وعداً منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا رأوه قبل من ظهور نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم ، فأما النجوم والشمس والقمر ، فقد كانوا يرونها كثيراً قبل وبعد ولا وجه لتهدّدهم بأنه يريهم ذلك .
وقوله : حتى يَتَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُ الحَقّ يقول جلّ ثناؤه : أُري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد ، وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها ، ولو كره المشركون .
وقوله : أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أنّهُ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول تعالى ذكره : أَوَ لم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو مجازيهم على أعمالهم ، المحسن بالإحسان ، والمسيء جزاءه .
وفي قوله : أنّهُ وجهان : أحدهما : أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : أَوَ لم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد ؟ والاَخر : أن يكون في موضع رفع رفعاً ، بقوله : يكف ، فيكون معنى الكلام : أَوَ لم يكف بربك شهادته على كل شيء .
{ سنريهم آياتنا في الآفاق } يعني ما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية ، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة . { وفي أنفسهم } ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم ، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة . { حتى يتبين لهم أنه الحق } الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله { أو لم يكف بربك } أي أو لم يكف ربك ، والفاء مزيدة للتأكيد كأنه قيل : أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى . { أنه على كل شيء شهيد } بدل منه ، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة ، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم ، أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية .
ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { في الآفاق وفي أنفسهم } فقال أبو المنهال{[1]} والسدي وجماعة : هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها . { وفي أنفسهم } أراد به فتح مكة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل{[2]} .
وقال الضحاك وقتادة : { سنريهم آياتنا في الآفاق } هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً { وفي أنفسهم } يوم بدر ، وقال ابن زيد وعطاء : { الآفاق } : آفاق السماء . وأراد : الآيات : في الشمس والقمر والرياح وغير لك . { وفي أنفسهم } عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك ، وهذه آيات قد كانت مرئية ، فليس هذا المعنى يجري مع قوله : «سنري » والتأويل الأول أرجحها ، والله أعلم . والضمير في قوله تعالى : { أنه الحق } عائد على الشرع والقرآن ، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق .
ثم قال تعالى وعداً لنبيه عليه السلام : { أولم يكف بربك } والتقدير : أولم يكف ربك ، والباء زائدة للتأكيد ، وأنه يحتمل أن يكون في موضع رفع على البدل من الموضع ، إذ التقدير : أولم يكف ربك ، ويحتمل أن يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ ، وهذا كله بدل الاشتمال ، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، أي لأنه على كل شيء شهيد .
وقرأ الجمهور : «أنه » بفتح الألف ، وقرأ بعض الناس «إنه » بكسرها على الاعتراض أثناء القول .