{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ } بصحة ، أو رزق ، أو غيرهما { أَعْرَضَ } عن ربه وعن شكره { وَنَأَى } ترفع { بِجَانِبِهِ } عجبا وتكبرًا . { وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ } أي : المرض ، أو الفقر ، أو غيرهما { فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } أي : كثير جدًا ، لعدم صبره ، فلا صبر في الضراء ، ولا شكر في الرخاء ، إلا من هداه الله ومنَّ عليه .
ثم أكد - سبحانه - ما ذكره من حالات الإِنسان فقال : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بنعمة من نعمنا التى توجب عليه شكرنا وطاعتنا .
{ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أى : أعرض عن شكرنا وطاعتنا ، وتكبر وتفاخر على غيره وادعى أن هذه النعمة من كسبه واجتهاده .
وقوله { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } كناية عن الانحراف والتكبر والصلف والبطر .
والنأْى البعد . يقال : نأى فلان عن مكان كذا ، إذا تباعد عنه .
وقوله - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } بيان لحالة هذا الإِنسان فى حالة الشدة والضر .
أى : هكذا حالة هذا الإِنسان الجاحد ، فى حالة إعطائنا النعمة له يتكبر ويغتر ويجحد .
وفى حالة إنزال الشدائد به يتضرع ويتذلل إلينا بالدعاء الكثير الواسع .
وفى معنى هذه الآيات الكريمة ، جاءت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً . إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً . وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً }
وهذا الإنسان إذا أنعم الله عليه : استعظم وطغى . وأعرض ونأى بجانبه . فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى ، ويصغر ويتضاءل ، ويتضرع ولا يمل الضراعة . فهو ذو دعاء عريض !
أية دقة ، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة ! إنه خالقه الذي يصفه . خالقه الذي يعرف دروب نفسه . ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية ، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم . . فتستقيم . .
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
يقول تعالى ذكره : وإذا نحن أنعمنا على الكافر ، فكشفنا ما به من ضرّ ، ورزقناه غنىً وسعةً ، ووهبنا له صحة جسم وعافية ، أعرض عما دعوناه إليه من طاعته ، وصدّ عنه وَنأَى بجانِبِهِ يقول : وبعد من إجابتنا إلى ما دعوناه إليه ، ويعني بجانبه بناحيته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : أعْرَضَ وَنأَى بِجانِبِهِ يقول : أعرض : صدّ بوجهه ، ونأى بجانبه : يقول : تباعد .
وقوله : وَإذَا مَسّه الشّرّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ يعني بالعريض : الكثير . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ يقول : كثير ، وذلك قول الناس : أطال فلان الدعاء : إذا أكثر ، وكذلك أعرض دعاءه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ ثُمّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلّ مِمّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قُلْ يا محمد للمكذّبين بما جئتهم به من عند ربّك من هذا القرآن أرَأَيْتُمْ أيها القوم إنْ كانَ هذا الذي تكذّبون به مِنْ عِنْدِ اللّهِ ثُمّ كَفَرْتُمْ بِهِ ألستم فِي فِراقٍ للحق وبعدٍ من الصواب ، فجعل مكان التفريق الخبر ، فقال : مَنْ أضَلّ مِمّنْ هُوَ في شِقاقٍ بَعَيدٍ إذا كان مفهوماً معناه .
وقوله : مَنْ أضَلّ مِمّنْ هُوَ في شِقاقٍ بَعَيدٍ يقول : قل لهم من أشدّ ذهاباً عن قصد السبيل ، وأسلك لغير طريق الصواب ، ممن هو في فراقٍ لأمر الله وخوفٍ له ، بعيد من الرشاد .
{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض } عن الشكر . { ونأى بجانبه } وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبرا ، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله : { في جنب الله } . { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } كثير مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته واستمراره ، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الامتدادين ، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله ؟
ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان جملة ، وهي في الكفار بينه متمكنة ، وأما المؤمن في الأغلب فيشكر عند النعمة ، وكثيراً ما يصبر عند الشدة .
وقرأ جمهور والناس : «ونأى بجانبه » الهمزة عين الفعل . وقرأ ابن عامر : «وناء » الهمزة لام الفعل ، وهي قراءة أبي جعفر ، والمعنى فيهما واحد . قال أبو علي : ناء قلب ابن آدم فعل فلع ، ومنه قول الشاعر [ كثير ] : [ الطويل ]
وكل خليل راءني فهو قائل . . . من اْجِلِك هذا هامة اليوم أو غد{[10099]}
وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا{[10100]} . . .
{ ونأى } معناه : بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة .
وقوله : { فذو دعاء عريض } أي طويل أيضاً ، فاستغنى بالصفة الواحدة عن لزيمتها ، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه ، ولم يقل طويل ، لأن الطويل قد لا يكون عريضاً ، ف { عريض } أدل على الكثرة .