{ أُولَئِكَ } المذكورون { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي : امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار ، واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم ، فاهتدى بهدي الرسل قبله ، وجمع كل كمال فيهم . فاجتمعت لديه فضائل وخصائص ، فاق بها جميع العالمين ، وكان سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وبهذا الملحظ ، استدل بهذه من استدل من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفضل الرسل كلهم .
{ قُلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك : { لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : لا أطلب منكم مغرما ومالا ، جزاء عن إبلاغي إياكم ، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم ، إن أجري إلا على الله .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم ، فيفعلونه ، وما يضرهم ، فيذرونه ، ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه . ويتذكرون به الأخلاق الحميدة ، والطرق الموصلة إليها ، والأخلاق الرذيلة ، والطرق المفضية إليها ، فإذا كان ذكرى للعالمين ، كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم ، فعليهم قبولها والشكر عليها .
ثم قال - تعالى - { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } أى : أولئك الأنبياء الذين ذكرناهم لك - يا محمد - هم الذين هديناهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فبهداهم ، أى : فبطريقتهم فى الإيمان بالله وفى تمسكهم بمكارم الأخلاق كن مقتديا ومتأسيا .
والمقصود إنما هو التأسى بهم فى أصول الدين ، أما الفروع القابلة للنسخ فإنهم يختلفون فيها ويجوز عدم الاقتداء بهم بالنسبة لها قال - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ، ولما يقتضيه للتكرير من الاهتمام بالخبر .
وفى قوله { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } تعريض بالمشركين إذ أن النبى صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا منهم ، أما هم فقد اختلقوا لأنفسهم عبادات ما أنزل الله بها من سلطان .
ثم ختم الله - تعالى - هذا السياق بقوله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أى : قل أيها الرسول الكريم لمن بعثت إليهم لا أطلب منكم على ما أدعوكم إليه من خير وما أبلغكم إياه من قرآن أجرا قليلا أو كثيرا .
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ } أى : ما هذا القرآن إلا تذكيرا وموعظة للناس أجمعين فى كل زمان ومكان .
قال بعضهم : وفى الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن والإنس وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق .
( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجرا . إن هو إلا ذكرى للعالمين )
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله [ ص ] ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم :
( لا أسألكم عليه أجرًا ) . . ( إن هو إلا ذكرى للعالمين ) . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْعَالَمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : أُولَئِكَ : هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين ، هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله والانتهاء عما فيه من نهيه ، فوقهم جلّ ثناؤه لذلك . فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يقول تعالى ذكره : فبالعمل الذي عملوا والمنهاج الذي سلكوا وبالهدى الذي هديناهم والتوفيق الذي وفقناهم ، اقتده يا محمد : أي فاعمل وخذ به واسكله ، فإنه عملٌ للّه فيه رضا ومنهاج من سلكه اهتدى .
وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله : فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرينَ أنهم الأنبياء المسَمّوْنَ في الاَيات المتقدمة ، وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك . وأما على تأويل من تأوّل ذلك أن القوم الذين وكلوا بها هم أهل المدينة ، أو أنهم هم الملائكة ، فإنهم جعلوا قوله : فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بهَا بِكافِرِينَ اعتراضا بين الكلامين ، ثم ردّوا قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ على قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتَابَ والحُكْمَ والنّبُوةَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحاق وَيَعْقُوبَ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يا محمد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال بن زيد ، في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ يا محمد ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ولا تقتد بهؤلاء .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الاَية : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .
ومعنى الاقتداء في كلام العرب بالرجل : اتباع أثره والأخذ بهديه ، يقال : فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره ، قِدَةً وقُدْوَةً وقِدْوَة وقِدْية .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى للْعَالمِينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكرهم بآياتي أن تَبسل نفس بما كسبت من مشكري قومك يا محمد : لا أسألكم على تذكيري إياكم والهدى الذي أدعوكم إليه والقرآن الذي جئتكم به ، عوضا أعتاضه منكم عليه وأجرا آخذه منكم ، وما ذلك مني إلا تذكير لكم ولكلّ من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل بأس الله أن يحلّ بكم وسخطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم ، وإنذار لجميعكم بين يدي عذاب شديد ، لتذكروا وتنزجوا .