181- ومع أن الله له ملك السماوات والأرض وميراثهما ، فقد قال بعض اليهود متهكمين : إن الله فقير يطلب منا أن نقرضه بالإنفاق ، ونحن أغنياء ننفق أو لا ننفق ، لقد سمع الله قولهم هذا وسجَّل عليهم ذلك القول كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلماً وإثماً وعدواناً ، وسيقول لهم يوم القيامة : ذوقوا عذاب النار المحرقة .
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
يخبر تعالى ، عن قول هؤلاء المتمردين ، الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها ، وأسمجها ، فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه ، مع أفعالهم الشنيعة ، وهو : قتلهم الأنبياء الناصحين ، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة ، وأنه يقال لهم -بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء- { ذوقوا عذاب الحريق } المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة ،
ثم أخذت السورة الكريمة - بعد أن فضحت المنافقين - فى الحديث عن بعض رذائل أهل الكتاب ، وفى التحذير من شرورهم ، وفى بيان طبيعة هذه الحياة وما تحمله من بلاء واختبار فقال - تعالى - : { لَّقَدْ سَمِعَ . . . . } .
قال ابن كثير : عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - ( مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ) قالت اليهود : يا محمد ! ! افتقر ربك فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .
وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : " دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس . فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له " فحناص " وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له " اشيع " . فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء . ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا .
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذى بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . . .
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : أبصر ما صنع بي صاحبك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله . إن عدو الله قال قولا عظيما . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء . فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه .
فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا . . . } " .
والمعنى : لقد سمع الله - تعالى - قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله - تعالى - فقير وهم أغنياء .
والمقصود من هذا السمع لازمه وهو العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح ، ثم محاسبتهم على ما تفوهوا به من أقوال ، وما ارتكبوه من أعمال ، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه .
وقوله { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى سنسجل عليهم فى صحائف أعمالهم قولهم هذا ، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق ، فالاسناد مجازى والكتابة حقيقية .
أو المعنى : سنحفظه فى علمنا ولا نهمله ، وسنعاقبهم بما يستحقونه من عقوبات ، فيكون الإسناد حقيقة والكتابة مجازا .
والسين للتأكيد ، أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته ، بل سنسجله عليهم ونعاقبهم عليه عقابا اليما بسبب أقوالهم القبيحة ، وأعمالهم المنكرة .
وقد قرن - سبحانه - قولهم المنكر هذا ، بفعل شنيع من أفعال أسلافهم ، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق ؛ وذلك لإثبات أصالتهم فى الشر ، وإستهانتهم بالحقوق الدينية ، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها ، ومعصية استباحوها ، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق ، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد ، وهو التجرؤ على الله - تعالى - ، فقتل الأنبياء هو تعد على أمناء الله فى الأرض الذين اختارهم لتبليغ رسالاته ، وقولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ } وهو تطاول على ذات الله ، وكذب عليه ، ووصف له بما لا يليق به - سبحانه - وبهذا كله يكونون قد عتوا عتواً كبيراً ، وضلوا ضلالا بعيدا .
وأضاف - سبحانه - القتل إلى المعاصرين للعهد النبوى من اليهود ، مع أنه حدث من اسلافهم ؛ لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه ، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو .
وفى الحديث الشريف : إذا عملت الخطيئة فى الرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها . ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها .
ووصف - سبحانه - قتلهم الأنبياء بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدا ، للإشارة إلى شناعة أفعالهم ، وضخامة شرورهم ، وأنهم لخبث نفوسهم ، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم فى موضعه أم فى غير موضعه .
ثم - صرح سبحانه - بالعقوبة بعد أن كنى عنها فقال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أى : سنجازيهم بما فعلوا ، ونلقى بهم فى جهنم ، مخاطبين إياهم بقولنا : ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التى كنتم بها تكذبون .
ففى الاية الكريمة إيجاز بالحذف دل عليه سياق الكلام .
والذوق حقيقته إدراك المطعومات ، والأصل فيه أن يكون فى أمر مرغوب فى ذوقه وطلبه ، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم كما فى قوله - تعالى - { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله ، لا حاجة بهم إلى جزائه ، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه - وقالوا في وقاحة : ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة ، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة ؟ ! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله :
( لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا ! وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ) .
وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق :
لنحاسبهم عليه ، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم :
( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) . .
وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء ، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه ، متباهين بهذا الجرم العظيم . . !
( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) . .
والنص على " الحريق " هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة : قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة : إن الله فقير ونحن أغنياء .