{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورفعة درجته ، وعلو منزلته عند اللّه وعند خلقه ، ورفع ذكره . و { إِنَّ اللَّهَ } تعالى { وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ } عليه ، أي : يثني اللّه عليه بين الملائكة ، وفي الملأ الأعلى ، لمحبته تعالى له ، وتثني عليه الملائكة المقربون ، ويدعون له ويتضرعون .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملائكته ، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم ، وتكميلاً لإيمانكم ، وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم ، ومحبة وإكرامًا ، وزيادة في حسناتكم ، وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام ، ما علم به أصحابه : " اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات ، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة
ثم أثنى الله - تعالى - على نبيه ثناء كبيرا وأمر المؤمنين بأن يعظموه ويوقروه فقال : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .
قال القرطبى ما ملخصه : هذه الآية شرف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فى حياته وموته ، وذكر منزلته منه .
. والصلاة من الله رحمته ورضوانه ، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره . .
والضمير فى { يُصَلُّونَ } لله - تعالى - ولملائكته . وهذا قول من الله شرف به ملائكته . .
أو فى الكلام حذف . والتقدير : إن الله يصلى وملائكته يصلون .
وقال ابن كثير : والمقصود من هذه الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - أخبر عباده بمنزلة بعده ونبيه عنده فى الملأ الأعلى : بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلى عليه ، ثم أمر الله أهل العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه . ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا .
والمعنى : إن الله - تعالى - يثنى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويرضى عنه ، وإن الملائكة تثنى عليه صلى الله عليه وسلم وتدعو له بالظفر بأعلى الدرجات وأسماها .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } أى : عظموه ووقروه وادعوا له بأرفع الدرجات { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أى : وقولوا : السلام عليك أيها النبى . والسلام : مصدر بمعنى السلام .
أى : السلام من النقائص والآفات ملازمة لك .
والتعبير بالجملة الاسمية فى صدر الآية ، للإِشعار بوجوب المداومة والاستمرار على ذلك . وخص المؤمنين بالتسليم ، لأن الآية وردت بعد النهى عن إيذاء النبى صلى الله عليه وسلم ، والإِيذاء له صلى الله عليه وسلم إنما يكون من البشر .
وقد ساق المفسرون - وعلى رأسهم ابن كثير والقرطبى والآلوسى - أحاديث متعددة فى فضل الإِكثار من الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ، وفى كيفية الصلاة عليه . .
ومنها ما رواه الإِمام أحمد وابن ماجة عن عامر بن ربيعة قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى على صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلى على ، فليُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر " .
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما عن كعب بن عُجْزَة قال : لما نزلت هذه الاية قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا السلام ، فكيف الصلاة عليك ، قال : قالوا : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
والآية الكريمة تدل على وجوب الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الصادقون هم الذين يكثرون من ذلك . قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها ؟ قلت : بل واجبة ، وقد اختلفوا فى حال وجوبها ، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال تجب فى كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره .
ومنهم من أوجبها فى العمرة مرة . . والذى يقتضيه الاحتياط : الصلاة عليه عند كل ذكر . . . لما ورد من الأخبار فى ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً } .
يقول تعالى ذكره : إن الله وملائكته يبرّكون على النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ على النّبِيّ يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْهِ يقول : يباركون على النبيّ .
وقد يحتمل أن يقال : إن معنى ذلك : أن الله يرحم النبيّ ، وتدعو له ملائكته ويستغفرون ، وذلك أن الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء . وقد بيّنا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته .
يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْهِ يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا ادعوا لنبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم وَسَلّمُوا عَلَيْهِ تَسْلِيما يقول : وحيوه تحية الإسلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه ، قال : أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمعت الله يقول : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلى النّبِيّ . . . الاَية ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : «قُلِ : اللّهُمّ صَلّ على مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا صَلّيْتَ عَلى إبْراَهِيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبارِكْ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا بارَكْتَ عَلى إبْراهِيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » .
حدثني جعفر بن محمد الكوفي ، قال : حدثنا يعلى بن الأجلح ، عن الحكم بن عُتيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى ، عن كعب بن عُجرة ، قال : لما نزلت : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلى النّبِيّ يا أيها الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيما قمت إليه ، فقلت : السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله ؟ قال : «قُلِ اللّهُمّ صَلّ على مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا صَلّيْتَ عَلى إبْراهِيمَ وآلِ إبْراهِيمَ ، إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبارِكْ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا بارَكْتَ عَلى إبْراهِيمَ وآلِ إبْراهِيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن يونس بن خباب ، قال : خطبنا بفارس فقال : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ . . . الاَية ، فقال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول : هكذا أنزل ، فقلنا : أو قالوا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : «اللّهُمّ صَلّ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا صَلّيْتَ عَلى إبْرَاهِيمَ وآلِ إبْراهِيمَ ، إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبارِكْ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمّدٍ ، كمَا بارَكْتَ عَلى إبْراهِيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن إبراهيم في قوله إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ . . . الاَية ، قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : قولوا : «اللّهُمّ صَلّ عَلى مَحَمّدٍ عَبْدِدَكَ وَرَسُولِكَ وأهْلِ بَيْتِهِ كمَا صَلّيْتَ عَلى إبْراهِيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » .
حدثني يعقوب الدورقي ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود الأنصاري ، قال : لما نزلت : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلى النّبِيّ يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيما قالوا : يا رسول الله هذا السلام قد عرفناه ، فكيف الصلاة ، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : «قولوا : اللّهُمّ صَلّ عَلى مُحَمّدٍ كمَا صَلّيْتَ عَلى آلِ إبْراهِيمَ ، اللّهُمّ بارِكْ عَلى مُحَمّدٍ كمَا بارَكْتَ على آلِ إبْراهِيمَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلى النّبِيّ يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا صَلّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيما قال : لما نزلت هذه الاَية قالوا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : «قولوا : اللّهُمّ صَلّ على مُحَمّدٍ ، كمَا صَلّيْتَ عَلى إبْرَاهِيمَ ، وَبارِكْ عَلى مُحَمّدٍ كمَا بارَكْتَ عَلى إبْرَاهِيمَ » وقال الحسن : «اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد ، كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد » .
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام وذكر منزلته منه وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء في أمر أزواجه ونحو ذلك ، وقوله { يصلون } ، قالت فرقة الضمير فيه لله وللملائكة ، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد ضل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت »{[9571]} ، قالوا لأنه ليس لأحد من البشر أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير واحد ولله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء ، وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره إن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون ، ودل الظاهر من القول على ما ترك ، وليس في الآية اجتماع في ضمير ، وقالت فرقة : بل جمع الله تعالى الملائكة مع نفسه في ضمير وذلك جائز للبشر فعله ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت » لهذا المعنى وإنما قاله لأن الخطيب وقف على «ومن يعصهما » وسكت سكتة ، ومما يؤيد هذا أن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في مصنف أبي داود «ومن يعصهما » فجمع ذكر الله تعالى مع رسوله في ضمير ، ومما يؤيد القول الأول أن في كتاب مسلم «بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له «بئس الخطيب أنت » ( أصلح له بعد ذلك جميع كلامه لأن فصل ضمير اسم الله تعالى من ضمير غيره أولى لا محالة فقال له : «بئس الخطيب أنت » لموضع ) خطأه في الوقف وحمله على الأولى في فصل الضميرين . وإن كان جمعهما جائزاً جائزاً ، وقرأ الجمهور «وملائكتَه » بنصب التاء عطفاً على المكتوبة ، وقرأ ابن عباس «وملائكتُه » رفعا عطفاً على الموضع قبل دخول { إن } وفي هذا نظر{[9572]} ، وصلاة الله رحمة منه وبركة ، وصلاة الملائكة دعاء ، وصلاة المؤمنين دعاء وتعظيم ، والصلاة على رسول الله في كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه ، وقال عليه السلام : «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود »{[9573]}
وصفتها ما ورد عنه عليه السلام في كتاب الطبري من طريق ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية قال له قوم من الصحابة : هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف نصلي عليك ؟ قال :
«قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى وآل إبراهيم وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد » وفي بعض الروايات زيادة ونقص هذا معناه . {[9574]}
وقرأ الحسن «يا أيها الذين آمنوا فصلوا عليه » وهذه الفاء تقوي معنى الشرط أي صلى الله فصلوا أنتم ، كما تقول أعطيتك فخذ ، وفي حرف عبد الله «صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلم وا تسليماً » .
أعقبت أحكام معاملة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى ، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظًّا عظيماً . ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علَّمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريباً ، وليُجعل ذلك تمهيداً لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم ، وذُكرَ صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالاً من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك ، والتأكيد للاهتمام . ومجيء الجملة الإسمية لتقوية الخبر ، وافتتاحها باسم الجلالة لإِدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم ، والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } في هذه السورة ( 43 ) . وهذه صلاة خاصة هي أرفع صلاة مما شمله قوله هو الذي يصلي عليكم وملائكته } لأن عظمة مقام النبي يقتضي عظمة الصلاة عليه .
وجملة { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيد لأن الله لما حَذّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظُّهم أكبر من ذلك وهو أن يُصَلُّوا عليه ويُسَلِّمُوا ، وذلك هو إكرامهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى ، فجملة { يا أيها الذين آمنوا } بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد . وجيء في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيراً إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته .
والأمر بالصلاة عليه معناه : إيجاد الصلاة ، وهي الدعاء ، فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية .
والصلاة : ذِكر بخير ، وأقوال تجلب الخير ، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة ، فصلاة الله : كلامه الذي يُقدِّر به خيراً لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطّل ، لأن الله هو الذي يدعوه الناس ، وصلاة الملائكة والناسِ : استغفار ودعاء بالرحمات .
وظاهر الأمر أن الواجب كلُّ كلام فيه دعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا : « يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمناه فكيف نصلي عليك ؟ » يعنون أنهم علِموا السلام عليه من صيغة بثّ السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته : السلام عليكم . والسلام في التشهد هو « السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » أو « السلام على النبي ورحمة الله وبركاته » .
فقال رسول الله : قولوا : " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد " . هذه رواية مالك في « الموطأ » عن أبي حُميد الساعدي .
وروي أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ « وعلى آل محمد » ( عن أزواجه وذريته في الموضعين ) وبزيادة « في العالمين » ، قبل : « إنك حميد مجيد . والسلامُ كما قد علمتم » . وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي . وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في « أحكام القرآن » . ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء ، والدعاء من حسن الأقوال ، ودعاء المؤمنين لا يتوجه إلاّ إلى الله .
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان مجملاً في العدد فَمَحْمَله مَحْمل الأمر المُجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإِيقاع الفعل ولمقتضَى الأمر . ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجباً على كل مؤمن أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في العمر ، فجعلوا وقتها العمرَ كالحج . وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره ، ولا خلاف في استحباب الإِكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها . قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن الموازِ من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية : إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته . قال إسحاق : ولو كان ناسياً .
وظاهر حكايتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمداً وكأنهم جعلوا ذلك بياناً للإِجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد ، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم ، والتسليمُ وارد في التشهد ، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله : لأقاتلنّ من فَرق بين الصلاة والزكاة ، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة ، وإلا فليس له أن يبين مجملاً بلا دليل .
وقال جمهور العلماء : هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي جرى عليه الشافعية أيضاً . قال الخطابي : ولا أعلم للشافعي فيها قُدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله ، وقد شنع عليه في هذه المسألة جداً . وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبي ، كذلك كل من روَى التشهد عن رسول الله . قال ابن عمر : كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتَّاب ، وعلمه أيضاً على المنبر عمر ، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قلت : فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب .
وأما حديث " لا صلاة لمن لم يصل عليَّ " فقد ضعفه أهل الحديث كلهم .
ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده ، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائِل ، وعند الدعاء ، وعند سماع الأذان ، وعند انتهاء المؤذن ، وعند دخول المسجد ، وفي التشهد الأخير .
وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبي بذكر الفعل المضارع في { يصلون } إشارة إلى الترغيب في الإِكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأسيَّاً بصلاة الله وملائكته .
واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون على النبي كلما جرى ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين .
والذي يبدو أنهم كانوا يصلون على النبي إذا تذكروا بعض شؤونه كما كانوا يترحمون على الميِّت إذا ذكروا بعض محاسنه . وفي « السيرة الحلبية » : « لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون صلواتُ الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله » وروى البخاري في باب : متى يحلّ المعتمر : عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحَجون « صلى الله على رسوله محمد وسلم لقد نزلنا معه ههنا ونحن يومئذٍ خِفاف » إلى آخره .
وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من « جامع الترمذي » حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت : كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ، قال الترمذي : حديث حسن وليس إسناده بمتصل .
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في « التاريخ الكامل » في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة : أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمداً النفس الزكية بأبيات منها :
والله لوْ شهد النبي محمد *** صلى الإله على النبي وسَلَّماً
ثم أحدثت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد ، ذكر ذلك ابن الأثير في « الكامل » في سنة إحدى وثمانين ومائة ، وذكره عياض في « الشفاء » ، ولم يذكرا صيغة التصلية . وفي « المخصص » لابن سيده في ذكر الخُف والنعل : إن أبا مُحَلِّم بعث إلى حذَّاء بنعل ليحذوها وقال له : « ثم سُنَّ شَفْرَتك وسُنّ رأس الإِزميل ثم سَمِّ باسم الله وصلّ على محمد ثم انحها » إلى آخره .
ولا شك أن إتباع اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجوداً في القرن الرابع ، وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبي عقب ذكره اسمه .
وأحسب أن الذين سنُّوا ذلك هم أهل الحديث . قال النووي في مقدمة شرحه على « صحيح مسلم » « يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله أن يكتب عز وجل ، أو تعالى ، أو سبحانه وتعالى ، أو تبارك وتعالى ، أو جل ذكره ، أو تبارك اسمه ، أو جلت عظمته ، أو ما أشبه ذلك ، وكذلك يكتب عند ذكر النبي « صلى الله عليه وسلم بكمالها لا رامزاً إليها ولا مقتصراً على بعضها ، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء . وينبغي للقارىء أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يقرأ منه ولا يَسأم من تكرر ذلك ، ومن أغفل ذلك حُرم خيراً عظيماً » اهـ .
وقوله : { وسلموا تسليماً } القول فيه كالقول في { صلوا عليه } حكماً ومكاناً وصفة فإن صفته حددت بقول النبي صلى الله عليه وسلم « والسلام كما قد علمتم » فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد « السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته » . وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم « السلام على النبي ورحمة الله وبركاته » . والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام رعياً لما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حي يَبلُغه تسليم أمته عليه .
ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأَحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلِّق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سلم عليه فقال : عليك السلام يا رسول الله فقال له : " إن عليكَ السلام تحيةُ الموتى ، فقل : السلام عليك " . والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام ، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة ، وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثأر ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أحداً توجّسُوا خِيفة أن يكون مضمراً شراً لملاقيه ، فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإِخبار بأنه مُلق على مُلاقيه سلامة وأمناً . ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالاً على الكرامة والتلطف ، قال النابغة :
أتاركة تدللها قطام *** وضِنًّا بالتحية والسلام
ولذلك كان قوله تعالى : { وسلموا } غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا السلام قد عرفناه ، وقال لهم : والسلام كما قد علمتم ، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهد في الصلاة .
وإذ قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول : السلام على النبي أو عليه السلام ، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبي بخلاف التصلية لما علمت مِمَّا اقتضى ذلك فيها .
والآية تضمنت الأمر بشيئين : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليممِ عليه ، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخيّر بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول : صلى الله على محمد والسلام عليه ، أو أن يقول : اللهم صل على محمد والسلام على محمد ، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله ، وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له ، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في « الشفاء » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقيت جبريل فقال لي : أبشرك أن الله يقول : من سَلَّم عليك سلمتُ عليه ومن صلى عليك صلّيتُ عليه . وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم ، وقال ابن حجر : لعله أراد خلاف الأوْلى . وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك .
وأما أن يُقال : اللهم سلم على محمد ، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حَسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية ، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا : صلى الله عليه وسلم لقصد الاختصار فيما نرى . وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل . وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت : « صلى الله على محمد وسلم » .
ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك .
وقد استحسن أيمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وعن مالك : لا يصلّى على غير نبيئنا من الأنبياء . يريد أن تلك هي السنة ، وروي مثله عن ابن عباس ، وروي عن عمر بن عبد العزيز : أن الصلاة خاصة بالنبيئين كلهم .
وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى : { سلام على نوح في العالمين } [ الصافات : 79 ] ، وقوله : { سلام على آل ياسين } [ الصافات : 130 ] ، { سلام على موسى وهارون } [ الصافات : 120 ] ، { سلام على إبراهيم } [ الصافات : 109 ] .
وأنه يجوز إِتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال . هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريماً ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين ، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأيمة الدين ، وقصروا كلمات الإِجلال نحو : تبارك وتعالى ، وجل جلاله ، على الخالق دون الأنبياء والرسل .
وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على عليّ وفاطمة وآلهما ، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغضّ من الخلفاء والصحابة .
وانتصب { تسليماً } على أنه مصدر مؤكد ل { سلّمُوا } وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال : صلّوا عليه صلاةً ، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر ، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإِحراق ، قال تعالى : { وتصلية جحيم } [ الواقعة : 94 ] ، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته .