{ إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } هذه الآية شرف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وموته ، وأظهر بها منزلته عنده تعالى ، والضمير في : يصلون راجع إلى الله وإلى ملائكته ، وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحدا ، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما سمع الخطيب يقول : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى ، فقال : بئس الخطيب القوم أن ، قل : ومن يعص الله ورسوله ، ووجه ذلك أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد وهذا الحديث ثابت في الصحيح ، وثبت أيضا في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم مناديا ينادي يوم خيبر : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا موضع ذكرها ، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيه لله والملائكة واحدا ، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال مثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله ، فيختص المنع بمثل ذلك ، وهذا أحسن ما قيل في الجمع .
وقالت طائفة في هذه الآية حذف ، والتقدير : إن الله يصلي وملائكته يصلون ، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد ، ولا يرد أيضا ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة ، ومن ملائكته الدعاء ، فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون ، ويقال على القول الأول : إنه أريد بيصلون معنى مجازي يعم المعنيين ، وذلك بأن يراد بقوله يصلون : يهتمون بإظهار شرفه ، أو يعظمون شأنه ، أو يعتنون بأمره وحكى البخاري عن أبي العالية : أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء ، وروى الترمذي في سننه : عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا : صلاة الرب الرحمة ، ، وصلاة الملائكة الاستغفار .
وقال عطاء بن أبي رباح : صلاته تبارك وتعالى : سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي . والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته ، وأن الملائكة تصلي عليه ، وأمر عباده بأن يقتدوا بذلك ويصلوا عليه ، وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل هي واجبة ؟ أو مستحبة ؟ بعد اتفاقهم على أن الصلاة عليه فرض في العمرة مرة . وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره فقال قوم من أهل العلم : إنه واجبة عند ذكره ، وقال قوم : تجب في كل مجلس مرة ، وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يصل عليه .
واختلف العلماء في الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تشهيد الصلاة المفروضة هل هي واجبة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة . قال ابن المنذر : يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة ، وسفيان الثوري ، وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم ، وهو قول الجمهور أهل العلم ، قال : وشذ الشافعي فأوجب على تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان ، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ، ولا يوجد عن الشافعي إلا من روايته ، قال الطحاوي : لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي ، وقال الخطابي ؛ وهو من الشافعية : إنها ليست بواجبة في الصلاة ، قال : وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي : ولا أعلم له في ذلك قدوة ، انتهى .
وقد قال بقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل ابن حيان وإليه ذهب أحمد بن حنبل أخيرا ، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي ، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية وقد جمع الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكر فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور ، وفي شرحه عن المنتقى ، ورسالتي : هداية السائل إلى أدلة المسائل ، وما يشفي ويكفي وأشف ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ :إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك في صلاتنا ؟ قال قولوا : الحديث ، فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب ، وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب الإعادة لها فلا ، لأن الوجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان .
وأعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت في مصنف مستقل ، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : [ من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ] فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة ، والمكرمة النبيلة ، وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما منها : ما هو مقيد بصفة الصلاة عليه في الصلاة ، ومنها ما هو مطلق ، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها ، والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل : اللهم صل وسلم على رسولك أو على محمد أو على النبي ، أو اللهم صل على محمد وسلم ومن أراد أن يصلي ويسلم عليه بصفة من الصفات التي وردت التعليم بها والإرشاد إليها فذلك أكمل وهي صفات كثيرة قد شملت عليها كتب السنة المطهرة ، وسيأتي بعضها ، وسيأتي الكلام في الصلاة على الآل .
وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل : صليت عليه وسلمت عليه أو الصلاة عليه والسلام عليه ، أو عليه الصلاة والتسليم ، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه والتسليم منا ، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول : اللهم صل عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن نصلي عليه ونسلم عليه ، وقد أجيب عن هذا بأن هذه الصلاة والتسليم لما كانتا شعارا عظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفا كريما ، وكلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه وهذا الجواب ضعيف جدا .
وأحسن ما يجاب به أن يقال : إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول : اللهم صل عليه وسلم أو نحو ذلك مما يؤدي معناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتضى ذلك البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية .
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعارا له يختص به دون غيره فلا يجوز لنا أن يصلي على غيره من أمته ، كما يجوز لنا أن نقول اللهم ارحم فلانا أو رحم الله فلانا ، وبهذا قال الجمهور من العلماء مع اختلافهم ؛ هل هو محرم ؟ أو مكروه كراهة شديدة ؟ أو مكروه كراهة تنزيه ؟ على ثلاثة أقوال . وقد قال ابن عباس : كما رواه عنه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب : لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار . وقال في المواهب : لم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم انتهى وقال في الأنموذج ومن خواصه صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن ولا غيره صلاة من الله تعالى على غيره صلى الله عليه وسلم فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء انتهى . وقال قوم : إن ذلك جائز لقوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ، ولقوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } ، ولقوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } .
ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى ، ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له أن يخص به من شاء ، وليس لنا أن نطلقه على غيره ، وأما قوله تعالى ( هو الذي يصلي ) الخ وقوله : ( أولئك عليهم صلوات ) فهذا ليس فيه إلا إن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسول ( صلى الله عليه وسلم ) مرة واحدة عشر صلوات وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعة الله في حقنا . بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله ، وكما أن لفظ الصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شعار له فكذا لفظ السلام عليه .
وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم ، والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا إلى ذلك بقوله سبحانه : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم } . عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى : هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه يا موسى ، سألوك هل يصلي ربك ؟ فقال : نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي ، فأنزل الله على نبيه : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الآية أي يبركون ، وعنه أن صلاة الله على النبي هي المغفرة إن الله لا يصلي ، ولكن يغفر ، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له .
{ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } أي ادعوا له بالرحمة وقولوا : اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد فإنكم أولى بذلك ، وعن ابن عباس أنه قرأ . صلوا عليه كما صلى الله عليه { وسلموا تسليما } أي حيوه بتحية السلام ، وقولوا اللهم سلم على محمد ، أو انقادوا لأمره انقيادا والأول أولى ، ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي ، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي ، وهو الاحتياط وعليه الجمهور .
قال أبو السعود : وهذه الآية دليل على وجوب الصلاة والسلام عليه مطلقا أي من غير تعرض لوجوب التكرار ، وقال القسطلاني قيل : هي مستحبة وقيل : واجبة في التشهيد الأخير من كل صلاة وعليه الشافعي وهو رواية عن أحمد وقيل : تجب في الصلاة من غير تعيين لمحل منها . وقيل : تجب في خارج الصلاة وقيل : كلما ذكر وقيل : في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره فيه وقيل : تجب في العمر مرة واحدة وقيل : تجب في الجملة من غير حصر وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقييد . وتسليما مصدر مؤكد قال الإمام ولم تؤكد الصلاة لأنها مؤكدة بقوله : إن الله وملائكته الخ وقيل : إنه من الاحتباك فحذف عليه من أحدهما والمصدر من الآخر وقال بعض الفضلاء : إنه سئل في منامه لم خص السلام بالمؤمنين دون الله والملائكة ؟ ولم يذكر له جوابا ؟
قلت : وقد لاح لي فيه نكتة سرية أي شريفة ، وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه ، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي والأذية إنما هي من البشر فناسب التخصيص بهم ، والتأكيد ، وإليه الإشارة بما ذكر بعده قاله الشهاب .
وأقول : هذه الآية من باب الاكتفاء على حد قوله : سرابيل تقيكم الحر والمعنى : إن الله وملائكته يصلون على النبي ويسلمون ، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة القرآنية وغيرها تسليم الله تعالى على غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والصلحاء ، والنكتة التي ذكرها الشهاب لا تخلوا عن تكلف وبعد تأمل . وعن كعب بن عجرة قال : لما نزلت : ( إن الله وملائكته ) الآية قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم وابن مردويه .
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه بلفظ : قال رجل : يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قل : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال : قلت : يا رسول الله كيف الصلاة عليك ؟ قال : قل : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
وفي الأحاديث اختلاف ، ففي بعضها على إبراهيم فقط ، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط ، وفي بعضها بالجمع بينهما ، كحديث طلحة هذا . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه أن رجلا قال : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا الحديث .
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله وجميع التعليمات الواردة عند صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث ، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه في صلاته عليه ، وقد قال بذلك جماعة ، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولا عن الشافعي ، كما رواه عنهما ابن كثير في تفسيره ، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به ، ولا وجه لقول من قال : إن هذه التعليمات الواردة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملا لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان عند نزول الآية ، وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وسلم قال : صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني .