{ أَمَّا السَّفِينَةُ ْ } التي خرقتها { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ } يقتضي ذلك الرقة عليهم ، والرأفة بهم . { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ْ } أي : كان مرورهم على ذلك الملك الظالم ، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما ، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب ، فتسلم من ذلك الظالم .
ثم حكى القرآن الكريم ما قاله الخضر لموسى عليهما السلام - فى هذا الشأن فقال - تعالى - : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }
أى قال الخضر لموسى : { أما السفينة } التى خرقتها ولم ترض عنه ، { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر } أى : لضعفاء من الناس لا يستطيعون دفع الظلم عنهم ، ولم يكن لهم مال يتعيشون منه سواها ، فكان الناس يركبون فيها ويدفعون لهؤلاء المساكين الأجر الذين ينتفعون به .
{ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أى : أن أجعلها ذات عيب بالخرق الذى خرقتها فيه ، ولم أرد أن أغرق أهلها كما ظننت يا موسى ، والسبب فى ذلك : أنه { كَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } ، ظالم ، من دأبه أن يتعقب السفن الصالحة الصحيحة ، ويستولى عليها ، ويأخذها اغتصابا وقسرا من أصحابها .
فهذا العيب الذى أحدثته فى السفينة . كان سببا فى نجاتها من يد الملك الظالم ، وكان سببا فى بقائها فى أيدى أصحابها المساكين .
فالضرر الكبير الذى أحدثته بها ، كان دفعا لضرر أكبر كان ينتظر أصحابها المساكين لو بقيت سليمة .
ويرى بعضهم أن المراد بالوراء الأمام . ويرى آخرون أن المراد به الخلف . وقال الزجاج : وراء : يكون للخلف والأمام . ومعناه : ما توارى عنك واستتر .
وظاهر قوله - تعالى - : { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } ، يفيد أن هذا الملك كان يأخذ كل سفينة سواء أكانت صحيحة أم معيبة ، ولكن هذا الظاهر غير مراد . وإنما المراد : يأخذ كل سفينة سليمة . بدليل : فأردت أن أعيبها ، أى : لكى لا يأخذها ، ومن هنا قالوا : إن لفظ { سفينة } هنا موصوف لصفة محذوفة . أى : يأخذ كل سفينة صحيحة .
و { غصبا } ، منصوب على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ . والغصب - من باب ضرب - : أخذ الشئ ظلما وقهرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هََذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً } .
يقول : أما فِعْلي ما فعلت بالسفينة ، فلأنها كانت لقوم مساكين يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها بالخَرق الذي خرقتها ، كما :
حدثني محمد ابن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها قال : أخرقها .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
وقوله : وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْبا وكان أمامهم وقُدّامهم ملك . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ قال قتادة : أمامهم ، ألا ترى أنه يقول : مِنْ وَرَائِهمْ جَهَنَمُ وهي بين أيديهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان في القرآن : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا . وقد ذُكر عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قرأ ذلك : وكان أمامهم ملك .
قال أبو جعفر : وقد جعل بعض أهل المعرفة بكلام العرب «وراء » من حروف الأضداد ، وزعم أنه يكون لما هو أمامه ولما خلفه ، واستشهد لصحة ذلك بقول الشاعر :
أيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعي وطاعَتِي *** وَقَوْمي تَمِيمٌ والفَلاةُ وَرَائيَا
بمعنى أمامي ، وقد أغفل وجه الصواب في ذلك . وإنما قيل لما بين يديه : هو ورائي ، لأنك من ورائه ، فأنت ملاقيه كما هو ملاقيك ، فصار : إذ كان ملاقيك ، كأنه من ورائك وأنت أمامه . وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة لا يجيز أن يقال لرجل بين يديك : هو ورائي ، ولا إذا كان وراءك أن يقال : هو أمامي ، ويقول : إنما يجوز ذلك في المواقيت من الأيام والأزمنة كقول القائل : وراءك برد شديد ، وبين يديك حرّ شديد ، لأنك أنت وراءه ، فجاز لأنه شيء يأتي ، فكأنه إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك . قال : فلذلك جاز الوجهان .
وقوله : يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْبا فيقول القائل : فما أغنى خَرْق هذا العالم السفينة التي ركبها عن أهلها ، إذ كان من أجل خرقها يأخذ السفن كلها ، مَعِيبها وغير معيبها ، وما كان وجه اعتلاله في خرقها بأنه خرقها ، لأن وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا ؟ قيل : إن معنى ذلك ، أنه يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا ، ويدع منها كلّ معيبة ، لا أنه كان يأخذ صحاحها وغير صحاحها . فإن قال : وما الدليل على أن ذلك كذلك ؟ قيل : قوله : فأَرَدْتُ أنْ أعِيبَها فأبان بذلك أنه إنما عابها ، لأن المعيبة منها لا يعرض لها ، فاكتفى بذلك من أن يقال : وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة صحيحة غصبا على أن ذلك في بعض القراءات كذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هي في حرف ابن مسعود : «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الحسن بن دينار ، عن الحكم بن عيينة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : في قراءة أُبي : «وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا » . وإنما عبتها لأردّه عنها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وكانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْبا فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها . قال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجَبَائِي ، أن اسم الرجل الذي يأخذ كلّ سفينة غصبا : هُدَدُ بنُ بُدد .
{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } لمحاويج ، وهو دليل على أن المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه . وقيل سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك أو لزمانتهم فإنها كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر . { فأردت أن أعيبها } أن أجعلها ذات عيب . { وكان وراءهم ملك } قدامهم أو خلفهم وكان رجوعهم عليه ، واسمه جلندى بن كركر ، وقيل منوار بن جلندى الأزدي . { يأخذ كلّ سفينة غصبا } من أصحابها . وكان حق النظم أن يتأخر قوله { فأردت أن أعيبها } عن قوله { وكان وراءهم ملك } لأن إرادة التعيب مسببة عن خوف الغصب وإنما قدم للعناية أو لأن السبب لما كان مجموع الأمرين خوف الغصب ومسكنه الملاك رتبه على أقوى الجزأين وأدعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم ، وقرئ " كل سفينة صالحة " والمعنى عليها .
المساكين : هنا بمعنى ضعَفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويُرَق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم . فليس المراد أنهم فقراء أشدّ الفقر كما في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يُرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين : « . . . مسكين ابن آدم وأيّ مسكين » .
وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد .
ومعنى : { وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ } : هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخّر كل سفينة يجدها غصباً ، أي بدون عوض . وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملِك في مصالح نفسه وشهواته ، كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام .
ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كلّ بحسب حاله من الاحتياج لأنّ ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها .
و { وراءَ } اسم الجهة التي خلفَ ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم ، وهو ضد أمام وقدّام .
ويستعار ( الوراء ) لحال تعقب شيء شيئاً وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريباً ، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى : { مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ } في [ الجاثية : 10 ] .
أليس ورائي أن تراختْ منيتي *** لزُوم العصا تُحنى عليها الأصابع
وبعض المفسرين فسروا { وَرَاءَهُم مَّلِكٌ } بمعنى أمامهم ملك ، فتوهم بعض مدوني اللغة أن ( وراء ) من أسماء الأضداد ، وأنكره الفراء وقال : لا يجوز أن تقول للذي بين يديك هو وراءك ، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول : وراءك بَرد شديد ، وبين يديك بَرد شديد . يعني أنّ ذلك على المجاز . قال الزجاج : وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللّغة .
ومعنى { كلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي صالحة ، بقرينة قوله { فأردت أن أعيبها } ، وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصاً وأقوالاً لم يثبت شيء منها بعينه ، ولا يتعلّق به غرض في مقام العبرة .
وجملة { فَأَرَدتُّ أنْ أعِيبَهَا } متفرعة على كل من جملتي { فَكَانت لمساكين } ، و { وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ } ، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر ، ولكنها قدمت خلافاً لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملاً ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله ، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجباً في الإقدام على خرقها . والمعنى : فأردت أن أعيبها وقد فعلت . وإنما لم يقل : فعبتها ، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل .
وقد تطلق الإرادة على القصد أيضاً . وفي « اللسان » عزو ذلك إلى سيبويه .
وتصرفُ الخضر في أمر السفينة تصرف برَعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالماً بحال الملك ، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي ، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين . وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلاّ الخضر ، فلذلك أنكره موسى .
وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جارٍ على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي ، فليس من مقام التشريع ، وذلك أنّ الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك ، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغياً كافراً . وأراد الله اللّطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالَم من هذا الطاغي لطفاً أرادهُ الله خارقاً للعادة جارياً على مقتضى سبق علمه ، ففي هذا مصلحة للدّين بحفظ أتباعه من الكفر ، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين ، ومصلحة عامة لأنه حقّ لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد .