الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا} (79)

قوله تعالى : " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " استدل بهذا من قال : إن المسكين أحسن حالا من الفقير ، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة " براءة " {[10674]} . وقد وقيل : إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر ، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عَبَّرَ عنهم بمساكين ، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها ، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب : مسكين . وقال كعب وغيره : كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى ، وخمسة يعملون في البحر . وقيل : كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر . وقد ذكر النقاش أسماءهم ، فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما ، والثاني أعور ، والثالث أعرج ، والرابع آدر ، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم ، والخمسة الذين لا يطيقون العمل : أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون ، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم ، ذكره الثعلبي . وقرأت فرقة : " لمسَّاكين " بتشديد السين ، واختلف في ذلك فقيل : هم ملاحو السفينة ، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة ، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مسَّاكين . وقالت فرقة : أراد بالمسَّاكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مَسْك والأظهر قراءة " مساكين " بالتخفيف جمع مسكين ، وأن معناها : إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم والله أعلم .

قوله تعالى : " فأردت أن أعيبها " أي أجعلها ذات عيب ، يقال : عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب ، فهو معيب وعائب . " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " قرأ ابن عباس وابن جبير ( صحيحة ) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان ( صالحة ) و( وراء ) أصلها بمعنى خلف ، فقال بعض المفسرين : إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه . الأكثر على أن معنى ( وراء ) هنا أمام ، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا " . قال ابن عطية : " وراءهم " هو عندي على بابه ، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان ، وذلك أن الحدث{[10675]} المقدم الموجود هو الأمام ، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها : إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك ، ومن قرأ " أمامهم " أراد في المكان ، أي كأنهم يسيرون إلى بلد ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( الصلاة أمامك{[10676]} ) يريد في المكان ، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان ، وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري " وكان وراءهم ملك " قال قتادة : أمامهم ألا تراه يقول : من " ورائهم جهنم{[10677]} " وهي بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم ، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها ، قاله الزجاج .

قلت : وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة ، قال الهروي قال ابن عرفة : يقول القائل كيف قال " من ورائه " وهي أمامه ؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قُطرُب أن هذا من الأضداد ، وأن وراء في معنى قدام ، وهذا غير محصل ؛ لأن أمام ضد وراء ، وإنما يصلح هذا في الأوقات ، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال : ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه ، لأنه يخلفه إلى وقت وعده ، وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال : إنما يقال هذا في الأوقات ، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك ، قال الفراء : وجوزه غيره ، والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك ، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة ، وذكره الزجاج . وقال الماوردي : اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال : [ أحدها ] يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال الله تعالى : " ومن ورائهم " [ الجاثية : 10 ] أي من أمامهم : وقال الشاعر{[10678]} :

أترجو بنُو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا

يعني أمامي ، [ والثاني ] أن وراء في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها الثالث : أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما ، وهذا قول علي بن عيسى .

واختلف في اسم هذا الملك فقيل : هدد بن بدد . وقيل : الجلندي ، وقال السهيلي . وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال : هو [ هدد بن بدد والغلام المقتول{[10679]} ] اسمه جيسور ، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي ، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة : وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها ، ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها ، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه ، وقد تقدم . وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله :( فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها ، فأصلحوها بخشبة . . . ) الحديث . وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد ، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد ، وهذا معنى قوله : " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " {[10680]} [ البقرة : 216 ] .


[10674]:راجع جـ 8 ص 168 فما بعد.
[10675]:في جـ و ك وي: الحادث المقدم الوجود.
[10676]:الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
[10677]:راجع جـ 16 ص 159.
[10678]:هو سوار بن المضرب.
[10679]:الزيادة من صحيح البخاري.
[10680]:راجع جـ 3 ص 39 وص و137.