اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا} (79)

قوله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } : العامة على تخفيف السين ، جمع " مِسْكين " . وقرأ{[21274]} عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه - بتشديدها جمع " مسَّاك " وفيه قولان :

أحدهما : أنه الذي يمسكُ سكَّان السفينة ، وفيه بعض مناسبة .

والثاني : أنَّه الذي يدبغُ المُسوكَ جمع " مَسْكٍ " بفتح الميم ، وهي الجلود ، وهذا بعيدٌ ؛ لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي البحر } قال شهاب الدين ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين ، و " يَعْملُونَ " صفة لمساكين .

قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } " وَرَاء " هنا بمعنى المكان .

وقيل : " وَراءَهُمْ " بمعنى " أمَامَهُمْ " ؛ كقوله :

{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] وقيل : " وَراءَهُمْ " خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه . والأول أصحُّ ؛ لقوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ويؤيِّده قراءة ابن عباس : وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً وقال سوارُ بن المضرِّب السعديُّ : [ الطويل ]

أيَرْجُو بنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطَاعتِي *** وقَوْمِي تَميمٌ والفَلاةُ وَرائِيَا{[21275]}

وقال تعالى : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] وتحقيقه : أنَّ كلَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك وتواريت عنه ، وقيل : إنَّ تحقيقه أنَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك ، وأنت متوارٍ عنه ، فكلُّ ما غاب عنك ، فهو وراءك ، وأمام الشيء وقدامه ، إذا كان غائباً عنك ، متوارياً عنك ، فلم يبعد إطلاق لفظة " وراء " عليه ، ويراد بها الزَّمان ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

ألَيْسَ وَرائِي أنْ أدبَّ على العَصَا *** فَيأمَنَ أعْدائِي ويَسْأمنِي أهْلِي{[21276]}

وقال لبيد : [ الطويل ]

أليْسَ ورَائِي إنْ تَراخَتْ منيَّتِي *** لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصَابِعُ{[21277]}

قوله : " غَصْباً " فيه أوجه :

الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ ، أو منصوب على المفعول له ، وهو بعيد عن المعنى ، وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فقال : " فإن قلت : قوله : " فأردتُّ أن أعيبها " مسبَّبٌ عن خوفه الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخَّر عن السبب ؛ فلمَ قُدِّم عليه ؟ قلتُ : النيةُ به التأخيرُ ؛ وإنما قدِّم للعناية به ، ولأنَّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلةِ قولك : زيدٌ ظنِّي مقيمٌ " .


[21274]:ينظر: القرطبي 11/24، البحر 6/145، والدر المصون 4/477.
[21275]:تقدم.
[21276]:البيت لابن ميادة. ينظر: البحر المحيط 6/145، روح المعاني 16/6، الدر المصون 4/477.
[21277]:تقدم.