البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا} (79)

عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به ، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به .

روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه ، وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت ، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل ، فقال : { أما السفينة } فبدأ بقصة ما وقع له أولاً .

قيل : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر .

وقيل : كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص .

وقرأ الجمهور : مساكين بتخفيف السين جمع مسكين .

وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح .

فقيل : المعنى ملاحين ، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك .

وقيل : المساكون دبَغَة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم ، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالاً من الفقير .

وقوله { فأردت } فيه إسناد إرادة العيب إليه .

وفي قوله : فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله ، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى .

قال الزمخشري : فإن قلت : قوله { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه ؟ قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها { لمساكين } فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم .

وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى .

ومعنى { أن أعيبها } بخرقها .

وقرأ الجمهور { وراءهم } وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ، ومعناه هنا أمامهم .

وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير .

وكون { وراءهم } بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج ، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام ، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى { من ورائه جهنم } وقال { ومن ورائه عذاب غليظ } وقال { ومن ورائهم برزخ } وقال لبيد :

أليس ورائي إن تراخت منيتي***لزوم العصا يحني عليها الأصابع

وقال سوار بن المضرب السعدي :

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي***وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر :

أليس ورائي أن أدب على العصا***فتأمن أعداء وتسأمني أهلي

وقال ابن عطية : وقوله { وراءهم } عندي هو على بابه ، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن ، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل .

إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلناه في الزمن .

وقوله { من ورائهم جهنم } مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن .

وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « الصلاة أمامك » يريد في المكان ، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن .

وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري { وكان وراءهم ملك } .

قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول { من ورائهم جهنم } وهي من بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج .

ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى .

وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء .

قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك ، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك .

قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك .

وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى .

قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً .

وقيل : الجلندي ملك غسان ،