{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 ) } .
سنفرغ لكم أيها الثقلان : سنأخذ في جزائكم فقط أيها الإنس والجان .
31 ، 32- { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ*فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
تحدثت الآيات السابقة عن الحق سبحانه : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } . أي : كل وقت هو في شئون ملكوته التي لا تحصى ولا تعد .
فإذا انتهت الدنيا وقامت القيامة قصد سبحانه إلى حساب الثقلين ، الجن والإنس ، والله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن .
والمقصود : سنريكم أهوال القيامة ، والحشر والسؤال ، والميزان والصراط . كما تقول لمن هو دونك سأتفرغ لك ، أي سأوجه همتي لمحاسبتك ومعاقبتك .
أي : سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة ، وفيه تهديد مستعار من قولك لمن تهدده : سأفرغ لك ، فإن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه وأجدَّ فيه .
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان } الفراغ هنا : القصد إلى الشيء والإقبال عليه . يقال : فرغ له وإليه – كمنع وسمع ونصر – قصد . وسأفرغ لفلان : سأجله قصدى . والثقلان : الإنس والجن ؛ تتنية ثقل ، بفتحتين . وأصله سنقصده يوم القيامة إلى محاسبتكم ومجازاتكم على ما قدمتم من الأعمال ، وسيكون ذلك شأننا في هذا اليوم فحسب !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سنفرع لكم أيه الثقلان} يعني سنفرغ لحساب الإنس والجن... وهذا من كلام العرب يقول: سأفرغ لك، وإنه لفارغ قبل ذلك، وهذا تهديد، والله تعالى لا يشغله شيء، يقول: سيفرغ الله في الآخرة لحسابكم أيها الثقلان يعني الجن والإنس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وعيد من الله لعباده وتهدّد، كقول القائل الذي يتهدّد غيره ويتوعده، ولا شغل له يشغله عن عقابه، لأتفرغنّ لك، وسأتفرّغ لك، بمعنى: سأجدّ في أمرك وأعاقبك، وقد يقول القائل للذي لا شغل له، قد فرغت لي، وقد فرغت لشتمي: أي أخذت فيه وأقبلت عليه، وكذلك قوله جلّ ثناؤه:"سَنَفْرُغُ لَكُمْ": سنحاسبكم، ونأخذ في أمركم أيها الإنس والجنّ، فنعاقب أهل المعاصي، ونثيب أهل الطاعة... عن ابن عباس، قوله: "سَنَفْرُغُ لَكُمْ أيّها الثّقَلانِ "قال: وَعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل، وهو فارغ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سنفرغ لكم أيه الثقلان} [{فبأي آلاء ربكما تكذبان}]...إن الفراغ ليس يستعمل في الفراغ من الشغل خاصة، لكن يستعمل له ولغيره من نحو إنجاز ما وعد، وأوعد، كأنه قال: سننجز لكم ما أوعدتكم {أيه الثقلان}. وعندنا أن الفراغ هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه لا للفراغ من الشغل؛ يقال: فلان فرغ من شغله، إذا فرغ من بناء داره، إذا أتمه، وانقضى ذلك. ألا ترى أنه، وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل، فهو مشغول بغيره؟ دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل؛ إذ لو كان اسما للفراغ من الشغل لا يوصف به، وهو مشغول بغيره. دل أنه اسم للتمام والانقضاء. لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل لما أن فعلهم الشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك، ففهم ذلك من فعلهم. فأما الله سبحانه وتعالى حين لا يشغله فعل عن فعل ولا شيء عن شيء لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه، وبالله العصمة والتوفيق.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
الفراغ للفعل هو التوفر عليه دون غيره {أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ} أي الجن والإنس، دليله قوله في عقبه {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} سمّيا ثقلين؛ لأنهما ثقل أحياءً وأمواتاً، قال الله سبحانه: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ}...ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{سنفرغ لكم}. عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة،...
.ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا، والأول أبين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سنفرغ} أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت {لكم} أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم: {أيّه الثقلان} بالنصفة، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان بالذات من الخلائق...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{سَنَفْرُغُ لكمْ أيُّها الثَّقَلاَنِ} هذه الآية أشد عليّ كما شد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {فاستقم كما أُمرت} [هود: 112] وأهوال القيامة، لأَنها جاءت على شكل من له مملوك أنعم عليه ولم يشكر، فقال سأَترك الأَشغال كلها وأُعاملك بما تستحق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يا للهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان. ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك! الله. جل جلاله. الله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال. الله -سبحانه- يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين: الجن والإنس، في وعيد وانتقام! إنه أمر. إنه هول. إنه فوق كل تصور واحتمال! والله -سبحانه- ليس مشغولا فيفرغ. وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري. وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} في سورة يوسف (98). والفراغ للشيء: الخلوُ عما يشغل عنه، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء، شبّه حال المقبل على عمل دون عملٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر. وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك (أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم)...والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة، لأن بعده {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41]، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية.وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض، فهو كالثقل على الدابة، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل. وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق. وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة، ثم استعمله أهل الإسلام..
قوله تعالى : " سنفرغ لكم أيها الثقلان " يقال : فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته . والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصدك . وفرغ بمعنى قصد ، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير :
ألاَنَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ *** فَهذَا حين كُنْتُ لها عَذابَا
يريد وقد قصدت . وقال أيضا{[14547]} وأنشده النحاس :
فَرَغْتُ إلى العبد المُقَيَّدِ في الحِجْلِ
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة ، صاح الشيطان : يا أهل الجُبَاجِب{[14548]} ! هذا مُذَمَّمٌ يبايع بني قيلة على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا إِزْبُ{[14549]} العقبة أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك " أي أقصد إلى إبطال أمرك . وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما . وقيل : إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ، ثم قال : " سنفرغ لكم " مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه ، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه . قاله الحسن ومقاتل وابن زيد . وقرأ عبدالله وأبي " سنفرغ إليكم " وقرأ الأعمش وإبراهيم " سيفرغ لكم " بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله . وقرأ ابن شهاب والأعرج " سنفرغ لكم " بفتح النون والراء ، قال الكسائي : هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم . وروى الجعفي عن أبي عمرو " سيفرغ " بفتح الياء والراء ، ورويت عن ابن هرمز . وروي عن عيسى الثقفي " سنفرغ لكم " بكسر النون وفتح الراء ، وقرأ حمزة والكسائي " سيفرغ لكم " بالياء . الباقون بالنون وهي لغة تهامة . والثقلان الجن والإنس ، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل : سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : " وأخرجت الأرض أثقالها{[14550]} " [ الزلزلة : 2 ] ومنه قولهم : أعطه ثقله أي وزنه . وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل . ومنه قيل لبيض النعام ثقل ؛ لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به . وقال جعفر الصادق : سُمّيَا ثقلين ، لأنهما مثقلان بالذنوب . وقال : " سنفرغ لكم " فجمع ، ثم قال : " أيه الثقلان " لأنهما فريقان وكل فريق جمع ، وكذا قوله تعالى : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم " ولم يقل إن استطعتما ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : " فإذا هم فريقان يختصمون{[14551]} " [ النمل : 45 ] و " هذان خصمان اختصموا في ربهم{[14552]} " [ الحج : 19 ] ولو قال : سنفرغ لكما{[14553]} ، وقال : إن استطعتما لجاز . وقرأ أهل الشام " أيهُ الثقلان " بضم الهاء . الباقون بفتحها وقد تقدم{[14554]} .
مسألة : هذه السورة و " الأحقاف " و " قل أوحي " دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك .
ولما انقضى عد النعم العظام على وجه هو في غاية الإمكان من البيان ، وكان تغير سائر الممكنات من النبات والجماد والملائكة والسماوات والأرض{[61916]} وما حوتا{[61917]} مما عدا الثقلين على نظام واحد لا تفاوت فيه ، وأما الثقلان فأحوالهما لأجل تنازع العقل والشهوات لا تكاد تنضبط ، بل تغير حال الواحد منهم في اللحظة الواحدة إلى ألوان كثيرة متضادة لما فيهم من المكر وأحوال المغالبة والبغي والاستئثار باللهو بالأمر والنهي ، وكان أكثرهم يموت بناره من غير أخذ ثأره ، واقتضت الحكمة ولا بد أنه لا بد لهم من يوم يجتمعون فيه يكون بينهما فيه الفصل على ميزان العدل ، خصهما بالذكر فقال آتياً في النهاية بالوعيد لأنه ليس للعصاة بعد الإنعام والبيان إلا التهديد الشديد للرجوع إلى طاعة الملك الديان ، والالتفات في قراءة الجماعة بالنون إلى التكلم أشد تهديداً من قراءة{[61918]} حمزة والكسائي بالتحتية على نسق ما مضى : { سنفرغ } أي بوعد{[61919]} قريب لا خلف فيه من{[61920]} جميع الشؤون التي ذكرت { لكم } أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم : { أيّه الثقلان * } بالنصفة{[61921]} ، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه ، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان{[61922]} بالذات من الخلائق ، و{[61923]}قال الرازي في اللوامع : وصفاً بذلك يعظم ذلك شأنهما ، كأن ما عداهما لا وزن له{[61924]} بالإضافة إليهما - انتهى .
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي " وقال جعفر الصادق : سميا بذلك لأنهما مثقلان بالذنوب .