37- إن تكن حريصاً - أيها النبي - على هداية المشركين من قومك ، باذلاً معهم أقصى ما في جهدك ، فلا تهلك نفسك حزناً إذا لم يتحقق ما تريد ، فقد تحكمت فيهم الشهوات ، والله لا يجبر على الهداية من اختاروا الضلال وتمسكوا به ، لأنه يتركهم لما اختاروا لأنفسهم ، وسيلقون جزاءهم عذاباً عظيماً ، ولا يجدون لهم يوم القيامة من ينصرهم ويحميهم من عذاب الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَحْرِصْ عَلَىَ هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحقّ فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلّ بفتح الياء من «يهدي » ، وضمها من «يضلّ » . وقد اختلف في معنى ذلك قارئوه كذلك ، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه : فإن الله من أضله لا يهتدي ، وقال : العرب تقول : قد هُدي الرجل يريدون قد اهتدى ، وهُدي واهتدى بمعنى واحد . وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه : فإن الله لا يهدي من أضله ، بمعنى : أن من أضله الله فإن الله لا يهديه . وقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والشام والبصرة : «فإنّ اللّهَ لاَ يُهْدَى » بضم الياء من «يُهدى » ومن «يُضل » وفتح الدال من «يُهدَى » بمعنى : من أضله الله فلا هادي له .
وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب ، لأن يَهْدي بمعنى يهتدى قليل في كلام العرب غير مستفيض ، وأنه لا فائدة في قول قائل : من أضله الله فلا يهديه ، لأن ذلك مما لا يجهله أحد . وإذ كان ذلك كذلك ، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى .
فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا : إن تحرص يا محمد على هداهم ، فإن من أضله الله فلا هادي له ، فلا تجهد نفسك في أمره وبلغه ما أرسلت به لتتمّ عليه الحجة . وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول : وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم ، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم .
وفي قوله : إنْ تَحْرِصْ لغتان : فمن العرب من يقول : حَرَصَ يَحْرِصُ بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل . وحَرِصَ يَحْرَصُ بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل . والقراءة على الفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، وهي لغة أهل الحجاز .
استئناف بياني ، لأن تقسيم كل أمّة ضالّة إلى مهتد منها وباققٍ على الضلال يثير سؤالاً في نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذه الأمّة : أهو جار على حال الأمم التي قبلها ، أو أن الله يهديهم جميعاً . وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم ، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلاله .
الأولى : التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنَق في نفس من يلحقه الأذى ؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية .
واللطيفة الثانية : الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضُلاّل منهم فئة قليلة ، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقُدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال .
والحرصُ : فرط الإرادة الملحّة في تحصيل المُراد بالسّعي في أسبابه .
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط ، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول ، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه النّاس ، كما قال تعالى : { حريص عليكم } [ سورة التوبة : 128 ] ؛ وإنّما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط . فالمعنى : إن كنت حريصاً على هداهم حرصاً مستمراً فاعلم أن من أضلّه الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد . فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير ، كقول عنترة :
إن تُغْدِ فِي دوني القِناعَ فإنّني *** طَبّ بأخذ الفارس المستلئم
وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضاً :
إن كنت أزمعتِ الفراق فإنما *** زُمّت رِكابكم بليلٍ مظلم
فإنّ فعل الشرط في البيتين في معنى : إن كان ذلك تصْميماً ، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم .
وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسمَ الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر . والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلاّ إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك ، فمن قدّر الله دوام ضلاله فلا هادي له . ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدّث عنهم بأن يقال : فإنهم لا يهديهم غير الله .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب لا يُهدَى } بضم الياء وفتح الدّال مبنياً للنائب ، وحذف الفاعل للتعميم ، أي لا يهديه هاد .
و { مَن } نائب فاعل ، وضمير { يضل } عائد إلى الله ، أي فإن الله لا يُهدَى المضَلّل بفتح اللاّم منه . فالمسند سببي وحُذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } [ سورة الرعد : 33 ] وقوله تعالى : { من يضلل الله فلا هادي له } [ سورة الأعراف : 186 ] .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف { لا يَهدي } بفتح الياء بالبناء للفاعل ، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل ، و { مَن } مفعول { يهدي } ، والضمير في { يضل } للّهِ ، والضمير السببي أيضاً محذوف ، والمعنى : أنّ الله لا يهدي من قَدّر دوام ضلاله ، كقوله تعالى : { وأضله الله على علم } [ سورة الجاثية : 23 ] إلى قوله : { فمن يهديه من بعد الله } [ سورة الجاثية : 23 ] .
ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب ، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.