{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هََؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مُذَبْذَبِينَ } : مردّدين ، وأصل التذبذب : التحرّك والاضطراب ، كما قال ، النابغة :
ألَمْ تَرَ أنْ اللّهَ أعْطَاكَ سُورَةً ***ترَى كُلّ مَلْكٍ دُوَنها يَتَذبْذَبُ
وإنا عنى بذلك : أن المنافقين متحيرون في دينهم ، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحةٍ فهم لامع المؤمنين على بصيرة ، ولا مع المشركين على جهالة ، ولكنهم حيارى بين ذلك ، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهبا ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَله الشّاةِ العائِرةِ بَيَنَ الغَنَمَيْنِ ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً وَإلى هَذِهِ مَرّةً ، لا تَدْرِي أيّتَهُما تَتْبَعُ » .
وحدثنا به محمد بن المثنى مرّة أخرى عن عبد الوهاب ، فوقفه على ابن عمر ولم يرفعه ، قال : حدثنا عبد الوهاب مرْتين كذلك .
ثني عمران بن بكار ، قال : حدثنا أبو روح ، قال : حدثنا ابن عباس ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ } يقول : ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك ، وليسوا بمؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله عليه الصلاة والسلام كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ، ناداه الكافر : أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك ! وناداه المؤمن : أن هلمّ إليّ فإن عندي وعندي ! يحصي له ما عنده . فما زال المنافق يتردّد بينهما حتى أتي عليه الماء فغرّقه ، وإن المنافق لم يزل في شكّ وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ ثاغِيَةٍ بينَ غَنَمَيْنِ رأتْ غَنَما عَلى نَشَزٍ ، فَأتَتْها فَلَمْ تُعْرَفْ ، ثمّ رأتْ غَنما على نَشَزٍ فَأتَتْها وَشامّتْها فَلَمْ تُعْرَفْ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { مُذَبْذَبِينَ } قال : المنافقون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هُؤلاءِ } يقول : لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى هؤلاء اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ } قال : لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين ، وليسوا مع أهل الشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مذَبْذَبِينَ بينَ ذَلكَ } : بين الإسلام والكفر { لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤلاءِ } .
وأما قوله : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } فإنه يعني : من يخذ له الله عن طريق الرشاد وذلك هو الإلام الذي دعا الله إليه عباده ، يقول : من يخذ له الله عنه فلم يوفقه له ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً : يعني طريقا يسلكه إلى الحقّ غيره . وأيّ سبيل يكون له إلى الحقّ غير الإسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه : أنه من يتبع غيره دينا فلن يُقبل منه ، ومن أضله الله عنه فقد غوى ، فلا هادي له غيره .
جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله : { مُذبذبينَ بينَ ذلك } وهو حال من ضمير { يُراءون } .
والمذَبْذَب اسم مفعول من الذّبْذَبة . يقال : ذبذبه فتذبذب . والذبذبة : شدّة الاضطراب من خوف أو خجل ، قيل : إن الذبذبة مشتقّة من تكرير ذَبّ إذا طَرد ، لأنّ المطرود يعجّل ويضطرب ، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير ، مثل زلزل ولَمْلَم بالمكان وصلصل وكبكب ، وفيه لغة بدالين مهملتين ، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم ، يقولون : رجل مدبدب ، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق . فقيل : إنّها مشتقّة من الدْبَّة بضمّ الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنّه يَسلك مرّة هذا الطريق ومرّة هذا الطريق .
والإشارة بقوله : { بين ذلك } إلى ما استفيد من قوله : { يُراءون الناس } لأنّ الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذباً ، إذ يجد في النماس أصنافاً متبايَنة المقاصد والشهوات . ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور ، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه ، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر .
وجملة { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } صفة ل { مذبذبين } لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة ، أو هي بيان لقوله : { مذبذبين بين ذلك } . و { هؤلاء } أحدهما إشارة إلى المؤمنين ، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين ، إذ ليس في المقام إلاّ فريقان فأيّها جعلته مشاراً إليه بأحد اسمي الإشارة صحّ ذلك ، ونظيره قوله تعالى { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه } .
والتقدير لا هُم إلى المسلمين ولا هُم إلى الكافرين . و ( إلى ) متعلّقة بمحذوف دلّ عليه معنى الانتهاء ، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر ، والذهاب الذي دلّت عليه ( إلى ) ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب ، أي هُم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون ، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على ( لا ) النافية مكرّرةً في غرضين : تارة يقصدون به إضاعة الأمرين ، كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع « لا سَهْلٌ فيُرْتقَى ولا سمين فيُنْتَقَل » وقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ ولا صلّى } [ القيامة : 31 ] { لا ذلول تثير الأرض وَلا تسْقي الحرث } [ البقرة : 71 ] . وتارة يقصدون به إثبات حالة وسَط بين حالين ، كقوله تعالى : { لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ } [ النور : 35 ] { لا فارض ولا بكر } [ المائدة : 68 ] ، وقول زهير :
فلاَ هُو أخفاها ولم يَتَقَدّمِ
وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي ، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر ، لأنّه لا طائل تحت معناه ، فتعيّن أنّه من الاستعمال الأول ، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين . وهم في التحقيق . ، إلى الكافرين . كما دَلّ عليه آيات كثيرة . كقوله : { الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ النساء : 139 ] وقوله : { وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [ النساء : 141 ] . فتعيّن أنّ المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين ، وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله ، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب . والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتِهم لينبذهم الفريقان .
وقوله : { فلن تجد له سبيلاً } الخطاب لغير مُعّين ، والمعنى : لم تجد له سيبلاً إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله : { ومن يضلل الله } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.