وقوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا يعني جلّ وعزّ بقوله : إن ناشئة الليل : إن ساعات الليل ، وكلّ ساعة من ساعات الليل ناشئة من الليل . وقد اختلف أهل التأويل في ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة ، قال : قلت لعبد الله بن أبي مليكة : ألا تحدثني أيّ الليل ناشئة ؟ قال : على الثبت سقطت ، سألت عنها ابن عباس ، فزعم أن الليل كله ناشئة ، وسألت عنها ابن الزبير ، فأخبرني مثل ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل ، قالوا : نشأ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ نشأ : قام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي مَيْسرة إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : نشأ : قام .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : إذا قام الرجل من الليل ، فهو ناشئة الليل .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : هو الليل كله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : إذا قمت من الليل فهو ناشئة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كلّ شيء بعد العشاء فهو ناشئة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : قيام الليل قال : وأيّ ساعة من الليل قام فقد نشأ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أيّ الليل قمت فهو ناشئة .
قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة ، عن ابن أبي مُلَيكة ، قال : سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل فقالا : كلّ الليل ناشئة ، فإذا نشأت قائما فتلك ناشئة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : أيّ ساعة تَهَجّدَ فيها متهجد من الليل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ يعني الليل كله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي عامر الخزاز ، ونافع عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس في قوله إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : الليل كله .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الليل كله إذا قام يصلي فهو ناشئة .
وقال آخرون : بل ذلك ما كان بعد العشاء ، فأما ما كان قبل العشاء فليس بناشئة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيميّ ، عن أبي مُجَلّز ، في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : ما بعد العشاء ناشئة .
قال : ثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو رجاء ، في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : ما بعد العشاء الاَخرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : ناشئة الليل : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : قال قتادة في قوله إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ قال : كلّ شيء بعد العشاء فهو ناشئة .
وقوله : هِيَ أشَد وَطْئا اختلفت قرّاء الأمصار في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء مكة والمدينة والكوفة أشَدّ وَطْئا بفتح الواو وسكون الطاء . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة ومكة والشام : «وِطاء » بكسر الواو ومدّ الألف على أنه مصدر من قول القائل : واطأ اللسان القلب مواطأة ووِطاءً .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
ويعني بقوله هِيَ أشَدّ وَطْئا ناشئة الليل أشدّ ثباتا من النهار وأثبت في القلب ، وذلك أن العمل بالليل أثبت منه بالنهار . وحُكي عن العرب : وَطِئنا الليل وطأ : إذا ساروا فيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من أهل التأويل من قرأه بفتح الواو وسكون الطاء ، وإن اختلفت عباراتهم في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة هِيَ أشَدّ وَطْئا : أي أثبت في الخير ، وأحفظ في الحفظ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة هِيَ أشَدّ وَطْئا قال : القيام بالليل أشدّ وطئا : يقول : أثبت في الخير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا يقول : ناشئة الليل كانت صلاتهم أوّل الليل هِيَ أشَدّ وَطْئا يقول : هو أجدر أن تُحْصُوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا قال : إن مصلى الليل القائم بالليل أشدّ وطئا : طمأنينة أفرغ له قلبا ، وذلك أنه لا يَعْرِضُ له حوائج ولا شيء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : هِيَ أشَدّ وَطْئا يقول : قراءة القرآن بالليل أثبت منه بالنهار ، وأشدّ مواطأة بالليل منه بالنهار .
وأما الذين قرأوا : «وِطاءً » بكسر الواو ومدّ الألف ، فقد ذكرت الذي عَنَوْا بقراءتهم ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد أشَدّ وَطْئا قال : أن تُوَاطيء قلبك وسمعك وبصرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا قال : تواطيء سمعك وبصرك وقلبك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أشَدّ وَطْئا قال : مُوَاطأة للقول ، وفراغا للقلب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا وأقْوَمُ قِيلاً قال : أجدر أن تواطىء لك سمعك ، أن تواطيء لك بصرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد أشَدّ وَطْئا قال : أجدر أن تواطىء سمعك وقلبك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا وأقْوَمُ قِيلاً قال : يواطيء سَمْعُك وبصرك وقلبك بعضه بعضا .
وقوله : وأقْوَمُ قِيلاً يقول : وأصوب قراءة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأعمش ، قال : قرأ أنس هذه الاَية : «إنّ ناشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشَدّ وَطْئا وأصْوَبُ قِيلاً » ، فقال له بعض القوم : يا أبا حمزة إنما هي أقْوَمُ قِيلاً قال : أقوم وأصوب وأهيأ واحد .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن الأعمش قال : قرأ أنس وأقْوَمُ قِيلاً : «وأصوب قيلاً » قيل له : يا أبا حمزة إنما هي وَأقْوَمُ قال أنس : أصوب وأقوم وأهيأ واحد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأقْوَمُ قِيلاً يقول : أدنى من أن تفقهوا القرآن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأقْوَمُ قِيلاً : أحفظ للقراءة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأقْوَمُ قِيلاً قال : أقوم قراءة لفراغه من الدنيا .
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة { قم الليل } [ المزمل : 2 ] ، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطْأً وأقوم قيلا .
والمعنى : أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية .
و { ناشئة } وصف من النشء وهو الحدوث . وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف ، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى ( في ) مثل « مَكَر الليل » ، وجعل من أقوم القيل ، فعُلم أن فيه قولاً وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن ، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة ، أي الصلاة الناشئة في الليل ، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام .
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعدَ هدأة الليل فأشبهت السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو ، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشْء فيها أقوى ، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم ، وفسر ابن عباس { ناشئة الليل } بصلاة الليل كلها . واختاره مالك . وعن علي بن الحسين : أنها ما بين المغرب والعشاء . وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير : أن أصل هذا معرب عن الحبشة ، وقد عدها السبكي في « منظومته » في معربات القرآن .
وإيثار لفظ { ناشئة } في هذه الآية دون غيره من نحو : قيامَ أو تَهَجُدَ ، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد .
وقرأ جمهور العشرة { وَطأً } بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة ، والوطء : أصله وضع الرجل على الأرض ، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأناً للظلام بالليل ، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله ، أي وَاطِئاً أنتَ ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطىء على الأرض فهو أمكن للفعل . والمعنى : أشد وقعاً ، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء .
ويجوز أن يكون الوطء مستعاراً لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي ، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيراً وثواباً ، وبهذا فسره قتادة .
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده { وِطاءً } بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر وَاطَأ من مادة الفعال . والوِطاء : الوفاق والملاءمة ، قال تعالى : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } [ التوبة : 37 ] . والمعنى : أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب ، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد .
وضمير { هي } ضمير فصل ، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } [ المزمل : 20 ] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل . وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر .
والأقوم : الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير { أقوم } للأفضل الأنفع .
و { قيلاً } : القَول ، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] . فالمعنى : أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات ، وأعون على المزيد من التدبر . قال ابن عباس : { وأقوم قيلاً } : أدنى من أن يفقهوا القرآن . وقال قتادة : أحفظ للقراءة ، وقال ابن زيد : أقوم قراءة لفراغه من الدنيا .
وانتصب { وطْأً } و { قيلاً } نسبة تمييزي ل { أشد } ول { أقوم } .