{ نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }
يقول جلّ ثناؤه : يا محمد إن ربك وربّ عيسى ورب كل شيء ، هو الرب الذي أنزل عليك { الكِتَابَ } يعني بالكتاب : القرآن . { بالحقّ } يعني بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل ، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران ، وسائر أهل الشرك غيرهم . { مُصَدّقا لما بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني بذلك القرآن ، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله ، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده ، لأن منزل جميع ذلك واحد ، فلا يكون فيه اختلاف ، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } قال : لما قبله من كتاب أو رسول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ } لما قبله من كتاب أو رسول .
حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ } أي بالصدق فيما اختلفوا فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يقول : القرآن مصدّقا لما بين يديه من الكتب التي قد خلت قبله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يقول : مصدّقا لما قبله من كتاب ورسول .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأنْزَلَ التّوْرَاةَ والإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وأنزل التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى . { مِنْ قَبْلُ } يقول : من قبل الكتاب الذي نزّله عليك . ويعني بقوله : { هُدًى للنّاسِ } بيانا للناس من الله ، فيما اختلفوا فيه من توحيد الله وتصديق رسله ، ومفيدا يا محمد أنك نبيي ورسولي ، وفي غير ذلك من شرائع دين الله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وأنْزَلَ التّوْراة والإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ } هما كتابان أنزلهما الله ، فيما بيان من الله ، وعصمة لمن أخذ به وصدق به وعمل بما فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وأنْزلَ التّوْراةَ والإنْجِيلَ } التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبلهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْزَلَ الفُرْقانَ } .
يعني جل ثناؤه بذلك : وأنزل الفصل بين الحقّ والباطل ، فيما اختلفت فيه الأحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره . وقد بينا فيما مضى أن الفُرقان إنما هو الفُعلان من قولهم : فرق الله بين الحقّ والباطل يفصل بينهما بنصره بالحق على الباطل¹ إما بالحجة البالغة ، وإما بالقهر والغلبة بالأيدي والقوّة .
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى ، وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع . ذكر من قال : معناه : الفصل بين الحقّ والباطل في أمر عيسى والأحزاب :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وأنْزلَ الفُرْقانَ } أي الفصل بين الحقّ والباطل ، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره .
ذكر من قال : معنى ذلك الفصل بين الحقّ والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ } هو القرآن أنزله على محمد وفرق به بين الحقّ والباطل ، فأحلّ فيه حلاله ، وحرّم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحدّ فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وأنْزلَ الفُرْقانَ } قال : الفرقان : القرآن فرق بين الحقّ والباطل .
والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك ، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع ، وأن يكون معنى الفرقان في هذا الموضع : فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذي حاجوه في أمر عيسى وفي غير ذلك من أموره بالحجة البالغة القاطعة عُذْرَهم وعُذْرَ نظرائهم من أهل الكفر بالله .
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأن إخبار الله عن تنزيله القرآن قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الاَية قد مضى بقوله : { نَزّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره ، فلا وجه لتكريره مرّة أخرى ، إذ لا فائدة في تكريره ، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ، وَاللّهُ عَزِيزٌ ذو انْتِقام } .
يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته ، وأن عيسى عبد له واتخذوا المسيح إلها وربا ، أو ادّعوه لله ولدا ، { لهم عَذَابٌ } من الله { شَدِيدٌ } يوم القيامة ، والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله . وآيات الله : أعلام الله وأدلته وحُججه .
وهذا القول من الله عزّ وجلّ ، ينبىء عن معنى قوله : { وأنْزَلَ الفُرْقَانَ } أنه معنيّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحقّ على أهل الباطل لأنه عقب ذلك بقوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ } يعني : أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحقّ والمبطل ، { لهمْ عذابٌ شديدٌ } وعيد من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له ، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه . ثم أخبرهم أنه عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم ، ولا يحول بينه وبينه حائل ، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد ، وأنه ذو انتقام ممن جحد حججه وأدلته ، بعد ثبوتها عليها ، وبعد وضوحها له ومعرفته بها . )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامِ } أي أن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء منه فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقام } .
{ من قبل } من قبل تنزيل القرآن . { هدى للناس } على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا ، وإلا فالمراد به قومهما . { وأنزل الفرقان } يريد به جنس الكتب الإلهية ، فإنها فارقة بين الحق والباطل . ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، كأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ، أو الزبور أو القرآن . وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما ، وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل ، أو المعجزات { إن الذين كفروا بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها . { لهم عذاب شديد } بسبب كفرهم . { والله عزيز } غالب لا يمنع من التعذيب . { ذو انتقام } لا يقدر على مثله منتقم ، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر ، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيما للأمر ، وزجرا عن الإعراض عنه .
{ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان }
{ مِنْ قَبْلُ } يتعلّق { بأنْزَلَ } ، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل ، و « هُدَى » حال ثانية . والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويٌّ مَعْنًى ، كما اقتضاه بناء قبل على الضم ، والتقدير من قبل هذا الزمان ، وهو زمان نزول القرآن .
وتقديم { مِنْ قبلُ } على { هدَى للناس } للاهتمام به .
وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن . وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن ، الذي هو تمام مراد الله من البشر { إنّ الدينَ عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] فالهدى الذي سبقه غير تام .
و{ للناس } تعريفه إمّا للعهد : وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين ، وإمّا للاستغراق العُرفي : فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإنّ ما اشتملا عليه يَهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي ، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهما السلام ، ولا يدخل في العموم الناسُ الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع مَنْ قَبْلَنَا شرعاً لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه .
والفرقان في الأصل مصدر فرَق كالشُكران والكُفران والبُهتان ، ثم أطلق على ما يُفرق به بين الحق والباطل قال تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يومَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وهو يوم بدر . وسمّي به القرآنُ قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] والمراد بالفرقان هنا القرآن ؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لِهديه على هدى التوراة والإنجيل ؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة . وإعادةُ قوله : { وأنزل الفرقان } بعد قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } للاهتمام ، وليُوصَل الكلام به في قوله : { إن الذين كفروا بآيات اللَّه } [ آل عمران : 4 ] الآية أي بآياته في القرآن .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
استئناف بياني مُمَهّد إليه بقوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل .
وشَمل قولُه : { الذين كفروا بآيات الله } المشركينَ واليهودَ والنصارى في مرتبة واحدة ، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن ، وهو المراد بآيات الله هنا لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آيةٌ من آيات الله ؛ لأنّه مُعجزة . وعبّر عنهم بالموصول إيجازاً ؛ لأنّ الصلة تجمعهم ، والإيماء إلى وجه بناء الخَبَر وهو قوله : { لهم عذاب شديد } .
وعطف قوله : { والله عزيز ذو انتقام } على قوله : { إن الذين كفروا بآيات الله } لأنّه من تكملة هذا الاستئناف : لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم ؛ إذ هو عذابُ عزيزٍ منتقم كقوله : { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [ القمر : 42 ] .
{ والعزيز } تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 209 ) : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم . } والانتقام : العقاب على الاعتداء بغضب ، ولذلك قيل للكاره : ناقم . وجيء في هذا الوصف بكلمة ( ذو ) الدالة على المِلك للإشارة إلى أنّه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعاً للانتقام بدافع الطبع أو الحنق .